السودان.. كلامٌ يجب أن يُقال!
محمد صالح صدقيان
العصر-اندلعت الحرب في السودان في 15 نيسان/أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يتولی رئاسة مجلس السيادة الانتقالي؛ و”قوات الدعم السريع” بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” الذي يشغل منصب نائب رئيس المجلس المذكور؛ والعنوان الصارخ لهذه الحرب “السلطة” ـ “الثروة” ـ “إسرائيل”.
صراع المواقع وتقاطع المصالح هي الصفة الغالبة علی النزاع بين رجلين في بلد يعاني من تنوع قبلي إثني مناطقي يُسيل لعاب العابثين والمارقين والمتربصين بالسودان شراً، وهو الواقع الذي دفع جنوب السودان للانفصال وتأسيس جمهورية بائسة، وفق التوقيت “الإسرائيلي”.
في السودان اليوم مشهدان. مشهدٌ يتحرك فوق الطاولة علی خلفية الخلاف بين البرهان وحميدتي. وآخر ـ أهم من الأول ـ يتحرك بضوء خافت تحت الطاولة علی أنغام مصالح إقليمية ودولية متعددة.
ما نلمسه من المشهد الأول تأسيس مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الجيش في نيسان/أبريل 2019 عقب الانقلاب على الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم السودان لثلاثة عقود حيث مالت الكفة لصالح العسكريين خلال سنوات حكمه الأخيرة.
وفي تشرين الاول/أكتوبر 2021 أطاح البرهان وحميدتي بحكومة مدنية ترأسها الأكاديمي عبد الله حمدوك؛ لكنه ما لبث أن عاد بفعل ضغوط دولية إلا أنه اضطر لمغادرة الوزارة نهائياً في كانون الثاني/يناير 2022 وسط تزايد حدة التوترات مع الجيش وتنامي الاحتجاجات في الشارع.
مشهدية البرهان وحميدتي كانت واضحة منذ توليهما منصبيهما في مرحلة ما بعد البشير. الأول ينتمي الی مؤسسة عسكرية رسمية؛ فيما يقود حميدتي “قوات الدعم السريع” التي لا يتجاوز عمرها حوالي العقدين من الزمن والتي نشأت بالاصل لمحاربة التمرد في إقليم دارفور الذي يعاني من تهميش الدولة المركزية ونخبها. القوی المدنية الممثلة بقوی إعلان “الحرية والتغيير” حاولت إصلاح ذات البين حيث توصلت في كانون الأول/ديسمبر 2022 إلى “اتفاق اطاري” هدفه إرساء حكم مدني بعد الاتفاق علی دمج “قوات الدعم السريع” بالقوات المسلحة لكن الطرفين اختلفا حول المهلة الزمنية لانجاز هذا الدمج وهيكلية قيادة الجيش.
هناك قضية تتعلق بالمناطقية لا سيما في مؤسسة مركزية كالجيش. فالبرهان يتحدر من بلده قندتو الواقعة في شمال السودان وهي منطقة هيمنت علی المشهد السياسي طوال عقود في حين ينتمي حميدتي الی قبائل البدو الرحل العربية في منطقة دارفور المهمشة في غرب البلاد، وكان جزءاً من الحشد القبلي سابقاً بعنوان ميليشيا الجنجويد. يطمح للسيطرة علی العاصمة الخرطوم وازاحة البرهان والجلوس علی كرسي قيادة المجلس السيادة الانتقالي ومعها قيادة الجيش.
هذا ببساطة هو المشهد المعروض فوق الطاولة؛ أما الآخر الذي يتحرك تحت الطاولة، فتشارك فيه قوى إقليمية ودولية، حيث لكل منها مصالح تتقاطع وأحياناً تفترق لكن أخطرها ذلك الذي تقوده “إسرائيل” استكمالاً لمشهدية انفصال جنوب السودان واستقلاله عن الدولة السودانية المركزية. ففي هذا المشهد هناك 20 الف مقاتل من دولة تشاد والسودان شاركوا في حرب ليبيا الی جانب القائد العسكري خليفة حفتر وميليشيا “فاغنر” الروسية وهذه المشاركة كان لها كبير الأثر حالياً في دعم “قوات الردع السريع” بقيادة حميدتي. وفي المشهد ذاته؛ فإن فرنسا التي تملك نفوذاً كبيراً في وسط افريقيا والتي تبحث عن الثروة وتحديداً الذهب؛ ليست بعيدة عن التطورات السودانية وهي منخرطة في منافسة شديدة مع ميليشيا “فاغنر” التي تريد هي الأخری الاستيلاء علی مناجم الذهب إضافة الی التأسيس لنفوذ روسي في المنطقة.
مصر هي الدولة المعنية أكثر من غيرها بهذه التطورات وهي تدعم مؤسسة الجيش لأسباب جيوسياسية ولا سيما قضية مياه النيل المتنازع عليها مع اثيوبيا.
تشاد تقف ضد حميدتي وتعمل علی دعم وتثوير القبائل ضده في حين تقف اثيوبيا وكينيا وارتيريا مع حميدتي لأسباب اقتصادية ـ مائية ـ أمنية ـ قبائلية حيث التقی حميدتي برؤساء هذه الدول قبل اندلاع الحرب. بدوره، يُمسك الاتحاد الافريقي العصا السودانية من الوسط، داعياً للحوار بسبب تقاطعات المشهد الداخلي والخارجي والاقليمي.
يبقی الكيان “الإسرائيلي” الذي يحاول الإصطياد بالماء العكر وله فضل في تغذية المعارك التي يشهدها السودان وصولاً إلى هدفه الاستراتيجي في “تقسيم المقسم وتجزئة المجزء”، خصوصاً أن السودان كان في السابق جزءاً من “جبهة الصمود والتصدي” التي تشكلت غداة زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلی تل أبيب، ومن عاصمته الخرطوم انطلقت اللاءات الثلاث ضد “اسرائيل” في العام 1967 وهي (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف).
هذا الكيان وطّد نفوذه في القارة السوداء، لا سيما غداة حرب تشرين 1973، وهو الآن يملك نفوذاً فيها وعلاقات ديبلوماسية مع 40 دولة افريقية وبات قادراً على ضمان 37 صوتاً افريقياً في لجان منظمة الامم المتحدة.
بالنسبة إلى “إسرائيل”، يقع السودان في صلب شعارها الاستراتيجي “من النيل إلی الفرات”؛ وهو بلد مهم باعتباره أقرب نقطة لافريقيا؛ إضافة إلی أهميته الإقتصادية؛ زدْ على ذلك أنه يحتضن مسار نهر النيل المرتبط بالأمن الغذائي والحياتي لمصر؛ فضلاً عن أنه بلد هش بسبب تعدديته المفرطة، ما يجعله أكثر قابلية من غيره للتقسيم، وهو الهدف “الإسرائيلي” الجيواستراتيجي في المنطقة. وفي الوقت نفسه، تطمح تل أبيب من خلال التطبيع مع السودان أن يكون سوقاً متطورة لبضائعها وقاعدة لها للتحكم بالبحر الأحمر ومحطة أساسية لرحلاتها الجوية نحو افريقيا وأميركا الجنوبية (إختصاراً للوقت)، بالإضافة إلى سعيها للتحكم بسوق الذهب والألماس والمعادن في العالم.
إستناداً إلى هذه المشهدية المعقدة والمتقاطعة؛ أي نهاية ستكون الحرب؟
الجواب علی هكذا سؤال ليس سهلاً لأن النهاية تعتمد علی قوة الطرفين في الميدان؛ ومن يفوز في الميدان المعقد سيحصل علی دعم كافة الأطراف التي تتربص بالسودان الدوائر ، خصوصاً أن السودان الخارج من حرب مُدمّرة سيحتاج للجميع من أجل إعادة إعمار ما دمّرته الحرب (نموذج اليمن وسوريا وليبيا والحبل على الجرار)؛ إلا أن الأكيد أن سودان ما بعد نيسان/أبريل 2023 لن يكون كما قبل هذا التاريخ لأن الحرب ستحمل معها تعقيدات جديدة لن يدفع ضريبتها سوی الشعب السوداني الذي ليس له غير الله. إنه نعم المولی ونعم النصير.