الغطرسة الأمریکیّة* *في تعاملها الظالم مع الشعب العراقي* *من وجهة نظر العلامّة الآصفي (رح)*
المدخل*
العصر- إنّ الإستکبار والإستعلاء الممزوجان بالغطرسة والعنجهیّة صفتان لا خُلُقیّتان ، بل ورذیلتان وعدوانیّتان وتُعدّان السِمة المشترکة بین جمیع الظالمین علی مرّ العصور ، أفراداً کانوا أو أنظمة أو تکتّلات ، وذلک في تعاملهم السیئ والمشین مع الشعوب المقهورة وروّاد مسیرتهم المضطهدون .
النظام الأمریکي الّذي طار صیته السیئ في عالم السیاسة والإقتصاد والهیمنة في المائة سنة الأخیرة ، هو أحد بل وأبرز هذه الأنظمة الظالمة والدمویة . حیث قلّ ما نجد شعبا أو حکماً سیاسیاً في شرق المعمورة وغربها ، لم یعاني من ظلم أمریکا وإضطهاد حکّامه .
ولذا نقرء في قائمة مشاریعهم الدمویّة والتخریبیّة في العالم ، قیامهم بإنقلابات عسکریّة أو مخملیّة في بعض الدول ، وتدمیرهم لإقتصاد بلدان اُخری ، وتجویعهم لشعوب لا یتعاطفون مع خططهم القمعیّة ، وشنّهم الحروب علی حکومات لم تکن في فلکهم ، وقس علی هذا .
عراقنا العزیز وشعبه الکریم أحد ضحایا النظام الأمریکي الفاشي وتعاملاته الشنیعة . فتارة بإعانتهم للعفالقة في إنقلابهم العسکري المشؤوم ، وتارة بتحریکهم لشنّ حروب علی دول الجوار العراقي ، وتارة بفرض عقوبات إقتصادیّة منهکة أضرّت بالشعب العراقي أکثر من ما أضرّت بالنظام البائد ، وتارة اُخری بفرض ثقافة منحطة غریبة علی العراقیین ودیانتهم ، کما وأنّ لمکائدهم السیاسیّة الجهنّمیّة الملمّعة ببریق الدیمقراطیّة المناهضة للإسلام حدیث شجون آخر .
إنّ صاحب الذکری ونحن نعیش ذکری سنویّته المؤسفة ، هو سماحة فقیدنا الاُستاذ آیة الله الشیخ محمد مهدي الآصفي (رح) ، وقد عایش معظم هذه المأساة کسائر الإسلامیین والمصلحین واکتوی بلهیب نارها وشجونها ، ولا أستبعد أنّ لا یکون لهذه الویلات تأثیر في رحیله المفاجئ عنّا أیضاً . فطالما قرئنا في تحلیلاته السیاسیّة وتدقیقاته العلمیّة وخطبه التوعویّة الّتي صدرت منه لأکثر من نصف قرن ، ما یکفي لإثبات تضلّعه الوافر وإحاطته الشمولیّة في معرفته لخُبث النظام الإمریکي الدنیئ تجاه العراق الإسلامي وشعبه المظلوم .
وإلیکم مقتطفات یسیرة من أقواله وتحلیلاته وتنبآته حول الغطرسة الأمریکیّة تجاه العراق والعراقیین ، وقد تجسدت معظمها فیما بعد :
*أمریکا مصدر الإرهاب في بلاد المسلمین*
فمن ثوابت الغطرسة الأمریکیّة في جمیع بلدان العالم ، والّذي قد أصبح ذاتیاً لسیاساتهم الإستکباریّة ، هو إرهابهم للشعوب المستضعفة وإرعابهم للحکومات الشُبه مستقلّة ، بل وحتّی المستقلّة .
فکم من تجربة عدوانیّة إمریکیّة طرق خبرها أسماعنا ، و قرأ عنها المتابعون أو عایشناها بأنفسنا وهي لم تقتصر علی إرعاب الدول الضعیفة عامّة والإسلامیّة منها بنحو أخص . بل تعدّت لتشمل حتّی القطب الشرقي بزعامة روسیا ، حیث لاقوا الأمرّین من تدخّل أمریکا وغطرستها الإرهابیّة في شؤونهم الداخلیّة .
کما وأنّهم طالما إعتمدوا لتحقیق مآربهم الدنیئة هذه ، علی حکّام عملاء لا یهدفون – أي الحکّام – سوی إرضاء أسیادهم والفتک بشعوبهم وتحریف خُطی ثوراتهم المشروعة عن مسارها الفکري ، وإن کلّف ذلک إبادة تلک الشعوب وقتل الکثیرین من الناس .
فمن أحدث أدواة الإستکبار الأمریکي للإرهاب والّتي صرّحوا بتأسیسهم ورعایتهم لها دون أیّ وجل وخجل ، هي فِرق التقتیل والتدمیر والتکفیر ، والّتي قد أضرّت بسیادة أنظمة حاکمة وأبادت شعوب مستقرّة في بلادها حتّی الآن .
وهو ما صرّح به شیخنا الآصفي (رح) بقناعة تامّة ، وأشار لهذا التآمر الأمریکي والإرهاب الدولي لقوی الشر ، في جملة من إصداراته . ففي کتابه الشیّق ( التحدّیات المعاصرة ) ، وبعد ما یشیر إلی العراق کشاهد حيّ طالما عانی وقدّم التضحیات علی ید زمر الإرهاب الدولي بقیادة أمریکا ، فیقول :
[ إنّ السیاسات الخارجيیّة للولایات المتّحدة الأمریکیّة والأنظمة المرتبطة بها في العالم ، هي واحدة من أسباب ظهور الإرهاب …. ومن الأفضل للولایات المتّحدة في موقفها من الإرهاب أن تعید النظر في سیاساتها في المنطقة وفي العالم لعلاج ظاهرة الإرهاب ، فإنّ هذه السیاسات تُنتج الإرهاب لا محالة ] .
*القرار الأمریکي معاکس لقرار الشعوب*
لا شکّ أنّ إمریکا لا تعترف بالشعوب المسحوقة ، ولا تُقر لهم قرار ، ولا تُقدّر فیهم وزناً ، ولا تقصد تلبیة مطالبهم ومصالحهم بتاتاً ، إسلامیّة کانت تلک الشعوب أم غیرها . و أمّا الإسلامیّة منها فستکون بالتأکید أکثر غرضاً لسهام حقدهم ، والتآمر علیهم وتحطیم إرادتهم وإماتة روح العزیمة والحریّة فیهم ، وبالتالي سرقة ثرواتهم ومعتقداتهم الإسلاميّة منهم .
ولذا حین یتحسسون بأنّ شعباً ما یعیش الوعي الإسلامي وروح التضحیة من أجل المبدأ ، تراهم یسعون جادّین في إبعادهم عن قیادة المسیرة وإماتة روح الحماس فیهم بشتّی الحیل ، حتّی تخلوا الساحة لغطرستهم وتنفیذ مکائدهم . وذلک بذریعة عدم التمکّن من مواجهة أمریکا وعملائها ، کما حصل في الغزو الأمریکي لاحتلال العراق وإسقاط مأجورهم الطاغیة .
فهم من جانب نحوّا عمیلهم صدام عند ما عصاهم في تنفیذ مصالحهم ، ومن جانب آخر کادوا المکائد لمنع الشعب العراقي من إختیار ما یرتئیه من نظام سیاسي یحکمه ، لیکون بعیداً عن الإسلام بذریعة الدیمقراطیّة المزعومة . وهذا ما تفهّمه شیخنا الاُستاذ مبکراً ، عند ما کتب عن قلقه وعن شکوک الشعب العراقي في هذا الشأن ، وذلک قُبیل احتلال العراق في عام 2003 م فصرّح :
[ إنّ أمریکا رغم أنّها جادة في إسقاط النظام (الصدامي) ، (لکن) لا ترید أن یتحقق ذلک من خلال إنتفاضة الشارع العراقي مباشرة و (راحت) تعمل علی إحباط أي مشروع سیاسي وتعبوي وحرکي لإسقاط النظام من خلال إنتفاضة شعبیِة ، کما حصل في إنتفاضة شعبان 1991 م ] . 1/ ج2/ 2003 .
*أمریکا لا تعبئ بالرأي العام العالمي في غزو العراق*
فمن الظلامات الکثیرة الّتي عانی منها الشعب العراقي المسلم ، سواء قبل زوال الحکم العفلقي الجائر أو بعده ، وسواء من الأنظمة المستبدّة المتعاقبة الّتي حکمت العراق أو من الإستعمار المعتدي فی ما مضی والإستکبار المستهتر المعاصر لأزمنتنا ، أنّها کانت تقابل أحیاناً بتعاطف ومواساة من ذوي الضمائر الحُرّة في العالم ، وحتّی الغربية منها ، ومن جماهیر دول الجوار تارة اُخری ، ومن شعوب الدول الإسلامیّة أو العربیّة حیناً آخر ، إن سمح الإعلام الضال العالمي وإن لم تمانع الدول العمیلة طبعاً . ولعل مردّ تعاطف تلک الشعوب یعود لمقولة ، *أخٌ لَکَ في الدینِ أو نَظیرٌ لَکَ في الخَلق* کما شبّهها أمیر المؤمنین (ع) . هذا کلّه موقف الشعوب .
أمّا الأنظمة الحاکمة فمستبدّه ، والدول المشارکة في غزو العراق ولاسیّما أمریکا المُشرّعة لسُنّة الإحتلال في عصرنا الأخیر ، فلم تستجب ولم تُعِر لکل تلک التندیدات والمسیرات الصاخبة في أرجاء العالم والمطالبة بعدم إثارة الحرب علی العراق ، أي إهتمام . وسببه أمور ثلاث :
أوّلاً – روح الإستکبار والعدوان الّتي عمّت کلّ کیان هؤلاء الأسیاد والعملاء الدولیین الغزاة للعراق.
ثانیّاً – إنّ القوامیس السیاسیّة لهؤلاء المستکبرین الغزاة لا تحسب للشعوب وحتّی لشعبها عند اتّخاذ القرار ، أيّ دور بل أيّ شأن وإحترام وإصغاءٍ لتصوراتهم وإبداء لآرائهم .
ثالثاً – إنّ الدولة والشعب المفترض نهبه وافتراسه وإحتلاله من قِبل أمریکا وعملائها یُعدُّ مُهاناً وحقیراً في أعینهم ، بحیث لا یحقّ له التخطیط لمستقبله السیاسي والثقافي والإقتصادي ، دع عنک التفکیر لمصیره المجهول .
وهو ما ذهب إلیه شیخنا الآصفي في غیر واحد من تصنیفاته وخطبه التوجیهیّة . إذ یکتب في الصفحة 48 من کتیّبه القیّم ( التحدّیات المعاصرة ) :
] أمریکا غیر عابئة بالإستنکار الواسع الّذي أشهره الرأي العام العالمي لهذا الغزو لکلّ من العراق وأفغانستان . فقد واجه الضمیر العالمي هذه الحالة الأخیرة باستنکار شامل وواسع في مسیراتٍ بشریّة حاشدة في مختلف البلدان حتّی في أمریکا نفسها ] .
*الطائفیّة سلاح أمریکي مدمّر*
وإن کان المشهور علی الألسن أنّ الإستعمار البریطاني العجوز هو الأوّل والأخبث في تفتیت وحدة الشعوب وتفریق تکاتفها ، وذلک لرفعها الشعارات المزیّفة والقواعد التخریبیّة والخطط الکیدیّة من الجوانب العقائدیّة والسیاسیّة والطائفیّة وغیرها . لکن لا یعني هذا أنّ أمریکا المستکبرة والّتي لشدّة خُبثها لقبها الإمام الخمیني الراحل بالشیطان الأکبر ، بریئة من هذه النعوت الخؤونة .
لا ، بل هي القمّة بالفعل والأکثر تمرّساً من غیرها في تمزیق وحدة الشعوب ، ولا سیّما في إثارة النعرات الطائفیّة بین الفرق الإسلامیّة ، وخاصّة إذا کان أتباع تلکم الفرق یقطنون في بلد واحد ، والأمثلة کثیرة .
فلو تصورّنا تأسیسهم لتنظیم حثالات داعش الدموي کمثال واحد ، وإرسالهم إلی العراق وسوریا أفواج أفواج لتدمیر البلاد والعباد ، کفانا ذلک معرفة بغطرسة الأمریکان وخُبثهم .
وطیّب الله ثری العلاّمة الآصفي (رح) في تخوّفه من مکائد الأمریکان علی العراق والعراقیین ، ولا سیّما مکیدة الإقتتال الطائفي الّتي طالما نبّه عن ویلاتها وحذّر الجمیع من نتائجها المؤسفة بل وتعوّذ بالله في خطابات وبیانات متعددة من طائفیّة أمریکا المتغطرسة ، إذا ما عمّت بلاد المسلمین .
ولذا أشار في البیان الّذي أصدره قبیل تأسیس تنظیم الدواعش وأحداث الإجتماعات الفتنویّة الّتي تلاحقت في المناطق السُنیّة بضوء أخضر من أمریکا ، فکتب (رح) :
[ إنّ الّذي یجري في العراق الیوم تحضیر مخطط ومدروس لإثارة فتنة طائفیّة واسعة بین الشیعة والسُنّة ….. وینسج خیوط هذه المؤامرة ویمولها ویحضّر لها اُمراء قطر والسعودیّة وحکّام ترکیا ومن ورائهم الأمریکان ] . 18 صفر 34
*أمریکا ترید للعراقیین أن یکونوا مطیّة لمآربها*
لا شک أنّ أصحاب القضیّة وحمَلَة همومها في کلّ بلد هم أبناءُ ذلک البلد ، وهم الّذین یستوجب علیهم تقریر مصیر وطنهم والمبادرة قبل غیرهم لحل مشاکله وطموحاته وآلامه وآماله . ولا سیّما الاُمور السیاسیّة والإقتصادیّة والإجتماعیّة والحُریّات المباحة وکل ما تستحسنه الفطرة الإنسانیّة . فهذه هي تصوّراتهم العُرفیّة والعُقلائیّة ، قبل آن تُشرّع قوانینها الأدیان والمذاهب لهم .
لکن في الأمر في حسابات أمریکا المتغطرسة وقوی الشر العالمیّة لیس کذلک . إذ أنّ خُیلائهم لا یسمح بل لا یُمکنهم تصوّر شعب ما یعتمد علی نفسه وعلی قُدراته وممتلکاته الذاتیّة وهو مُستغنیاً عنها ولا یستأذنها في خطواته المستقبلیّة .
کمثال لذلک نُشیر للعراق الضعیف من جمیع الجهات ، وکیفیّة تعامل الإحتلال الأمریکي مع نظامه وشعبه بعد سقوط الطاغیة . فأمریکا هي الّتي کانت تُخطط لمستقبلهم ، وتُرشّح من ترتئیه لإمارتهم بدلاً عنهم ، وتُدیر إعلامهم ، وتُلغي ما یُصوّبون ، وتُصوّب ما لا یریدون ، وتُحکّم من یرفضون ، وهلُمّ جرّاً من خُبث روّجته في أوساطهم .
وهذا ما أشار له العلامة الآصفي (رح) في البیان الّذي بعث به إلی خطباء ومبلّغي الحوزة العلمیّة بمناسبة حلول شهر رمضان لعام 1428 ق ، وإن استنکره واستنکفه البعض من روّاد الحوزة المتناسیة لرسالتها والمتکاسلة عن همومها . فبعد ما سرد (رح) ما فیه الکفایة من مظالم أمریکا وإعلامها الضال بحق الشعب العراقي وحکومته الفتیّة فکتب :
[ الغایة من هذه الحملة الإعلامیّة الواسعة والمؤمرات السیاسیّة المتعاقبة ، إلغاء إنتخاب الناس وتهمیش الجمهور وإرادته السیاسیّة وإعادة العصابات الإنتهازیّة إلی موقع الحکم وتمکینهم من ثروات البلاد وخیراته ، لتتمکّن أمریکا وأنظمة الإستکبار العالمي أن تجعل من هذه العصابات جسراً إلی مآربها السیاسیّة والإقتصادیّة والعسکریّة ] .
*المصالح الأمریکیّة فوق کلّ شیئ*
بعد مضي عشرون عاماً علی العدوان الأنجلوا أمریکي الفاشي علی العراق ، والمؤدّي لإسقاط عمیلهم الطاغیة وزوال البعث الکافر ، لو استعدنا ذکریاتنا عن تلک الحقبة الحرجة ، فبالتأکید سیلمح أنظارنا مواقف البعض من المتسیّسین العراقیین وبتبعهم الجهلة سیاسیِاً ، حیث کانوا بصراخهم المدوّي یستبشرون فرحاً بأنّ أمریکا جائت لتنقذنا – لتخلّصنا ، جائت بحضارتها – بعصرنتها – بتقدّمیتها ، جائت لسیادة الدیمقراطیّة في العراق ، وهکذا أماني فارغة لم نسمع أن حققتها أمریکا في أيّ بلد غزته من قبل .
وإذا بکل تلک الأماني تحلُّ محلّها الویلات – الإغتیالات – التعصّبات – العصابات – الإختطافات – سرقة الثروات الوطنیّة – تخریب البنیة التحتیّة – الإقتتال الطائفي – الجهل – إنتشار اللادینیّة والتخریف والتحریف ، وهکذا حدّث ولا حرج . فکلّ ذلک بالتأکید قد تمّ وسیتمّ علی ید الإحتلال الأمریکي أو بایعاز مباشر منه لخلق أجواء الفساد والرذیلة .
ولذا صرّح شیخنا الآصفي وهو بصدد التأکید علی خُبث أمریکا في تعاملها الوضیع مع القضیّة العراقیّة وتحرر العراقیین ، وذلک في الفترة الّتي سبقت إسقاط الطاغیة فقال لصحیفة المشکاة :
[ المشروع الأمریکي بالنسبة إلینا هو التحدّي الکبیر . لأنّ أمریکا لا تقوم بهذه الضربة ولا تتحمّل تکالیفها الإقتصادیّة والسیاسیّة وهي تکالیف باهظة من غیر شک ، لغرض تحریر الشعب العراقي من صدّام وزمرته المجرمة وجلاوزته واُسرته ….. ولإقامة نظام تعددي دیمقراطي في العراق ….. ] .
*أمریکا تسعی لنشر الثقافة المادیّة في العراق*
قد یَشکّ البعض في أمر مردد ومبهم ، ولکن لا یشکّ أحد في إسلامیّة الشعب العراقي وأصالته الدینیّة وحوزاته العلمیّة ، وإن غیّر الجهل والتعصّبات جزءً من معالمه الظاهریّة طیلة العهود الطویلة المنصرمة .
فها هو التأریخ الإسلامي بین أیدینا – قدیماً وحدیثا – یکشف ویثبت دور العراق وذکره في العهود الإسلامیّة الاُولی ، أي في عهد الخلافة الراشدة وما بعده في فترة حضور الأئمة الإثنی عشر الّذین یقول بإمامتهم الشیعة . وحتّی فترتنا المعاصرة المتجلّیة بتاریخها الحافل ، وما تبیّنه ثورة الـ 1920 م الإسلامیّة العلمائیّة ، والإنتفاضة الشعبانیّة الغرّاء في 1991 م کشاهدان ملموسان .
وعلیه ، یخطئ الإحتلال الأنجلوا الأمریکي الخبیث حین غزا العراق في مطلع القرن الواحد والعشرین ، وهو یسعی لسرقة دیانته ومحو أصالته ببریق الدیمقراطیّة والحریّة الفردیّة والسیاسیّة والدینیّة وحقوق الإنسان وغیرها من شعارات فارغة لا تتحقق حتّی في بلدانهم .
نحن لا ننکر بأنّ مکائدهم الفتنویّة قد أثّرت شیئاً ما علی واقعنا في العراق . ولکن یبدوا أنّ لتغیّر الأزمان والظروف ، وذهاب جیل وظهور جیل آخر یُعرف بالحشد الشعبي المقاوم ، قد تتغیّر مجاري الاُمور إلی ما لا تشتهیه أمریکا وحلفائها الإقلیمیین ومأجوریها الداخلیین .
وإلاّ کیف غزت العراق شتّی الکتب والمجلات والأفلام والفضائیات ومواقع التواصل الضالّة الداعیة إلی تخریب عقول المسلمین وإفساد خُلقهم وتحریف معتقداتهم . الأمر الّذي حذّر منه علماؤنا ومخلصونا مراراً وتکراراً ، ومنهم شیخنا الراحل الآصفي کما ذکر في کُتیّبه ( الخطاب لأنصار الحسین – صفحة 40 ) :
[ قد فتح الإحتلال الطریق لمجموعة کبیرة من المراکز والمؤسسات الغربیّة المشبوهة وغیر المعروفة إلی حواضرنا وأوساطنا ، تحت غطاء الأعمال الثقافیّة والخدمات والإنسانیّة …… ولا نحتاج إلی جهد کبیر لنعرف الأدوار الّتي تلعبها هذه المؤسسات في نشر الفساد والإبتذال وفي نشر الثقافة المادیّة في العراق ] .
*حُرمة استیلاء الکافر علی المؤمن*
مما لم یتغافله شیخنا الآصفي الراحل (رح) في أبحاثه وإبداء تصوّراته ، هو الجانب الشرعي من التعامل بین قوی الکفر العالمي والدول المقهورة . حیث أنّ صریح الآیات القرآنیّة المتعددة ومضافاً لتراثنا الحدیثي الجم ، ینّصان علی حرمة استیلاء الکافرین علی المؤمنین من جمیع الجوانب ، سیاسیّة کانت أم إقتصادیّة ، أمنیّة کانت أم ثقافیّة .
مثاله التدخّل الأمریکي المباشر وهي دولة کافرة معروفة بخصومتها للإسلام والمسلمین ، في شؤون الدولة العراقيّة وشعبه المتدیّن بالإسلام بعد سقوط الطاغیة . فإذا کان طابع هذا الإستیلاء غزواً واحتلالاً بالعنوة ، فلا شکّ من ضرورة مواجهته والدفاع عن حیاض البلاد الإسلامیّة بما یمکن للمکلّف ، کما في الفقه الإسلامي .
وإذا کان بمسمّیً آخر کما هم وأذیالهم الإقلیمیین سمّوه بالإتفاقیّة الأمنیّة وبظاهر منمّق ومبرّق ، فیلزم حینئیذٍ الرجوع بها إلی خبراء الفقه وروّاد السیاسة للتأکد من فحواها ، عسی أن تکون ضارّة لمصالح المسلمین وهي بالتأکید مضرّة ، ولا سیّما في المجالات الّتي أسلفنا ذکرها .
ذلک بعد ما نبّهنا القرآن بقوله : *لَن تَرضی عَنکَ الیَهودَ وَلا النَصاری حَتّی تَتَبِعَ مِلّتَهُم .*
وأتمّ الحجّة علینا بقوله : *وَلا تَرکَنوا إلی الّذینَ ظَلَموا فَتَمَسّکُمُ النار .*
وهذا المبنی الفقهي هو الّذي دعی شیخنا الاُستاذ العلّامة الآصفي (رح) أن یصارح به الشعب العراقي المسلم ، في البیان الّذي أصدره حول الإتفاقیّة الأمنیّة بین العراق وأمریکا ، لیتّخذوا الموقف المناسب تجاه أعدائهم . وإن کان البعض من رفاق دربه (رح) وشرکائه في العمل الإسلامي قد إستنکروا علیه معتقده القرآني هذا بالقول والعمل ، حین جالسوا المحتل وابتسموا بوجهه بل ونسّقوا معه اَحیاناً ، بذریعة أ نّه محتل ونحن لا نقدر علی مواجهته . فکتب (رح) :
[ إنّ الأمریکان کفّار وفي موقع الإحتلال والعدوان من العالم الإسلامي و من العراق بشکل خاص ، وأیدیهم بید إسرائیل ویصرّحون بأنّ حمایة إسرائیل تجاه المسلمین والعرب من ثوابتهم السیاسیّة الّتي لا یتراجعون عنها ، وقد منعنا الله تعالی في کتابه أن نتقبّل نفوذ الکفّار في بلادنا بأيّ شکل من الأشکال . یقول تعالی :وَلَن یَجعَلِ اللهُ لِلکافِرینَ عَلی المُؤمِنینَ سَبیلا ] . (النجف الأشرف – 22 ج2 1429 هـ)
*أمریکا مثیرة الحرب العراقیّة الإیرانیّة*
یؤسفني أن أسمع وإلی یومنا هذا ممن یتلاعب بالألفاظ ویسفسط القول زوراً وجهلا ، بدعوی أنّ إیران هي الّتي شرعت الحرب علی العراق وأوقدت نارها في مطلع الثمانینات ، دون أن یقدّم دلیلاً مستدلا .
لکن الوُعاة والمتابعین للأحداث السیاسیّة والإقلیمیّة بغیر غرض ، وکذا شهادات المنظّمات الدولیّة واعترافات من کانت لهم یدٌ في تأجیج نار هذه الحرب الظالمة فیما بعد ، أنّ صدام وحزبه المشؤوم وبضوء أخضر من الإستکبار الأمریکي ودعم الرجعیّة العربیّة هم من باشروا بإشعال الحرب علی الجمهوریّة الإسلامیّة في بادئ الأمر .
وما ذلک إلاّ لشدة هلع أمریکا علی مصالحها من أصداء الثورة الإسلامیّة وإیحائاتها الروحانیّة الّتي راحت تتجلّی یوماً بعد یوم في إیقاظ قلوب المومنین جمیعا . ومن أجدر من الشعب العراقي المسلم أن یتعاطف مع هذه الثورة الإلهیّة وقیادتها الربانیّة أکثر من سائر الشعوب .
فعلی مستوی الداخل الایرانی هناک العشرات من المکائد والخطط الخبیثة الّتي قامت بها أمریکا لضرب ثورتها الفتیّة . وعلی مستواها الخارجي فتأسیس مجلس التنافق الخلیجي وترغیب صدّام بشنّ الحرب علیها تعدّان من أبرز معالم الغطرسة الأمریکیّة تجاهها .
وهذه هي الحقیقة الّتي وعاها وصرّح بها شیخنا الآصفي مراراً وتکراراً . منها ما صرّح به في مقابلته مع مجلة ( نهضت جهاني اسلام ) الناطقة باللغة الفارسیّة وفي عددها الثالث بتاریخ نیسان 1986 م ، بقوله :
[ لقد أدرک الإستکبار العالمي عمق الرابطة القویّة بین الشعب العراقي والثورة الإسلامیّة ، وشعر بالخطر من نموّ هذه العلاقة فأوعز إلی نظام حزب البعث الإرهابي لشنّ الحرب ضد الجمهوریّة الإسلامیّة ….. فقد نفّذ الکثیر من المؤامرات للحدّ من تصدیر الثورة الإلهیّة والّتي ستکون الحرب بین ایران والعراق إحدی مصادیقها ….. ومن الصحیح القول بأنّ أیادي الإستکبار العالمي بادرت إلی شنّ الحرب لإبعاد العراق من الإنضمام إلی أمواج الثورة الإسلامیّة ] .
*طغیان صدّام في حرب الخلیج ، بمبارکة أمریکیّة*
إن اختلف البعض منّا في بعض الرؤی ، فقد لا نختلف دون شک ، علی أنّ صدام کان مبتلی بجنون العظمة وهیستریا البطش والسفک وداء خنق الأصوات المعارضة . وهذا ما کلّف الشعب العراقي ودول الجوار تقدیم أغلی التضحیات والخسائر . نعم القلیل من المأجورین والمنتفعین والجهلة قد یعارضوننا في ذلک والسبب معروف . فحماقاته الکثیرة ونفسیّته المریضه وخیلاءه الأجوف حین تصدّی لرئاسة الجمهوریّة في نهایة السبعینات أنتج أمران :
اَوّلاً أنتج في ذاته الشریرة تصوّرات باطلة لیجسّد کل ما یتمنّاه من مغامرات وفتن وحروب وتعدّي .
وثانیاً ، قناعة قوی الشر في باریس ولندن وأخیراً الإستکبار الأمریکي ، بکون صدّام هو ضالّتهم المناسبة والوحیدة لمواجهة المدّ الشیعي وزعزعة أمن الشرق الأوسط وحراسة الکیان الصهیوني من کلّ تهدید ولا سیّما ایران الإسلامیّة .
هذا کلّه من جانب ، وعلی صعید آخر فإنّ العنجهیّة الأمریکیّة الباحثة عن مصالحها وهیمنتها الشریرة في المنطقة ، والّتي کانت في نمو متزاید منذ نهایات الحرب العالمیّة الثانیّة ، دعیاها لتدرک أنّ تحشّد قوّاتها المسلّحة وفرض إرادتها زوراً وعدوانا ، سیحقق أغراضها التوسعیّة أکثر من ذي قبل .
وهذا ما وعاه سماحة شیخنا الآصفي الراحل فلم یتغافله حین قال (رح) في مقابلة صحفیّة مع نشرة الجهاد الاُسبوعیّة الصادرة في طهران وفي عددها المرقّم 475 بتاریخ 27 / ج2 / 1411 – 14 / کانون الثاني / 1991 م :
[ نحن نعتقد انّ أمریکا هي المسؤولة عن نزق صدّام ومغامراته الطائشة ، لما قدّمته خلال هذه المدّة من دعم وإمداد واسعین ومتواصلین ….. إنّ أمریکا ترید من خلال حشودها العسکریّة أن تحافظ علی موقعها کقوّة کبری في المنطقة والعالم ، کما ترید أن تحافظ علی مصالحها ] .
والحمد لله ربّ العالمین قم المقدّسة – محمد جواد البستانيت