الفرص الاقتصادية المهدرة في الوطن العربي
مجلة تحليلات العصر-رشـــيد الحداد/مجلة يمن ثبات العدد الثاني
عند الحديث عن اقتصاد العالم العربي نتحدث عن قوة اقتصادية هائلة، قادرة على تغيير وجه المنطقة لو تكاملت وسخرت لخدمة الشعوب العربية التي تتجاوز اليوم الـ 300 مليون نسمة، وتعيش منها الملايين في فقر مدقع وبطالة سافرة، فـالاقتصاد العربي يتميز بالتعدد والخصوصية، الوطن العربي يمتلك المال والثروة البشرية والمواد الطبيعية والأولية المستخدمة في الإنتاج، ويمتلك سوق استهلاكي قوام مستهلكيه 300 مليون نسمة، يصل معدل استهلاكه السنوي مئات المليارات من الدولارات،
ومع تلك القوة الاقتصادية الكبيرة التي لو كانت في دول «شرق آسيا» أو في دول «الاتحاد الأوربي» لتحولت إلى رقم اقتصادي من الصعب تجاوزه من قبل دول الاستكبار العالمي، ولكن اقتصاد الوطن العربي يعيش حالة التبعية الاقتصادية المفرطة، التي حولت مقومات التكامل الوطني من القوة إلى الضعف، وأنهت كافة المشاريع الاقتصادية التكاملية، فالتبادل التجاري في نطاق الدول العربية لا يتجاوز %11 من إجمالي التبادل التجاري بين الدول العربية ودول العالم، ووفق الإحصاءات حول استيراد العرب للقمح، تفيد تقارير «منظمة الفاو» أن تسعاً من الدول العربية ستستورد نحو 40.2 مليون طن من القمح خلال عام 2019 – 2020م، وهو ما يمثل 21.9% من واردات القمح العالمية.
الفجوة في الأمن القومي العربي في الغذاء تتسع عاما بعد آخر، ووصلت فاتورة استيراد القمح وأساسيات الحياة إلى أكثر من 53 مليار دولار العام الماضي، في حين أن إيران اكتفت ذاتياً من القمح وأصبح ناتجها السنوي يتجاوز الاحتياج بفائض يزيد عن مليون طن من القمح ، وفي حال توجيه الاستثمارات الوطنية في الإنتاج الزراعي لحقق الوطن العربي فائضاً في وقت قياسي، ولتمّ توفير عشرات المليارات من الدولارات من جانب، ومن جانب آخر يتم تحقيق أمن غذائي قومي، وسد هذه الفجوة التي تزداد خطورة من عام لآخر، فالمساحة الزراعية في الوطن العربي تساوي 4,4 % من مساحة الوطن العربي، بينما في المساحة الصالحة للزارعة في اليمن تساوي 3,2 % وتعد مساحة كبيرة وتكفي لسد احتياجات اليمن التي تستورد 3,4 مليون طن من مصادر خارجية من القمح والدقيق سنوياً، وإن كان انعدام المال وغياب الرؤية الوطنية خلال العقود الماضية وتداعيات الوصاية الأجنبية وخنوع النظام السابق لمطالب المنظمات الدولية بعدم الاتجاه نحو تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح والحبوب، فدول عربية أخرى عجزت عن سد الفجوة الغذائية رغم امتلاكها للمال والثروة البشرية القادرة على الإنتاج.
لقد حاول الخبراء في الاقتصاد على مدى العقود الماضية تشخيص أسباب فشل التكامل العربي، وأسباب فشل المشاريع الاقتصادية العربية، كالسوق العربية الحرة وغيرها، وكانت النتائج متشابهة إلى حدٍ مَّا، بأن غياب الإرادة السياسية للحكام العرب هو السبب الرئيسي لفشل التنمية الاقتصادية العربية، فالمشكلة في تحقيق الأمن الغذائي لم تكن مشكلة بذور ولا بحوث زراعية ولا أزمات مياه ولا انعدام لرأس المال الوطني والبشري، بل مشكلة وصاية أجنبية من دول الاستكبار العالمي، وعلى رأسها أمريكا، فعلى سبيل المثال، في سبعينيات القرن الماضي انتعشت الصناعة الجزائرية واتجهت «الجزائر» نحو صناعة المعدات الثقيلة، كـ «الشيولات» و«الدركترات» و«المعدات الثقيلة» وبجودة عالية، معتمدة على السوق العربي لتغطيته بتلك الآلات، فاعترضت حينها «فرنسا» بشدة، وقامت إلى جانبها أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وتعرضت الجزائر لضغوط كبيرة وتهديدات بعزلة اقتصادية، بل إن تلك الدول حذرت بعض عملائها من قادة عدد من الدول العربية من مغبة التعامل مع تلك الصناعات العربية.
ونحن اليوم في الألفية الثالثة نعاني كشعوب عربية من أزمات اقتصادية متعددة ، بينما المال العربي يوجه بمئات المليارات من الدولارات نحو الاستثمار الأجنبي في دول الغرب، مثلاً تصل استثمارات العرب في «فرنسا» أكثر من نصف تريليون دولار، وتتجاوز استثمارات «السعودية» في «أمريكا» لوحدها أكثر من 1,4 تريليون دولار، وتصل استثماراتها في الخارج إلى 3,5 تريليون دولار، وتصل استثمارات «قطر» وفق آخر الإحصائيات في أمريكا وأوروبا نحو 135 مليار دولار، ونحو 30 مليار دولار في آسيا بما فيها 10 مليارات دولار في الصين، و13 مليار دولار في روسيا، ليصبح إجمالي استثمارات «قطر» في أوروبا وأمريكا وآسيا نحو 165 مليار دولار.
ونحن نتحدث عن الفرص الضائعة في الاقتصاد العربي، فإن السعودية تكفلت بتشغيل 5 ملايين عاطل عن العمل في أمريكا خلال العامين الماضيين، ولايزال ولي نعمة بن سلمان غير راضٍ ويريد المزيد، ولكن تلك الأموال العربية التي ساهمت بنمو الاقتصاديات الغربية بمختلف قطاعاتها لم تتدفق نحو الوطن العربي، ووفقا للتقارير الصادرة عن «مؤسسة ضمان للاستثمار العربي» فإن إجمالي الاستثمارات العربية البينية متواضعة جداً، اللافت في الأمر أنّ دولاً عربية كقطر مثلا تساهم بنسبة كبيرة في «شركة بيوينج» للطائرات العملاقة ، ولكن هنا السؤال نفسه ! هل ستسمح دول الاستكبار لقطر أو أي دولة عربية أخرى بإنشاء شركة خاصة بصناعة طائرات مدنية في الوطن العربي؟
حتى الآن لم تجرؤ أي دولة عربية على صناعة السيارات باستثناء سوريا قبل العدوان عليها، ولذلك فإن التبعية السياسية للحكام العرب تعد السبب الرئيسي لارتفاع الفرص الضائعة في الاقتصاد العربي، ولأن الحاكم العربي مستلب الإرادة والقرار ولا يجرؤ على مواجهة الحقيقة ورفض الإملاءات الخارجية وكسر تلك القيود التي دفع ويدفع ثمنها المواطن العربي، فإن حال الوطن العربي ظل دون تغير، والتنمية ظلت مجرد عبارة يرددها الحكام في المناسبات لتخدير الشعوب فقط.
فـ «دول الاستكبار العالمي» تسمح للرأس المال العربي أن يتوجه نحو بورصات «لندن» لشراء سندات وأسهم لشركات بريطانية وأمريكية وفرنسية وغيرها بمليارات الريالات؛ لإدراكها بأن تلك الأموال سوف تساهم في نمو اقتصاداتها، وتعاظم شأن إنتاجها المحلي، وتضع خطوط حمراء على أي محاولات لتوجيه تلك الأموال نحو الاستثمار في الوطن العربي، وهذا يعد قمة الإذلال لحكام الوطن العربي الذين سلّموا إرادتهم لواشنطن وإسرائيل كون الصهيونية العالمية متحكمة بالمال العالمي، وتسببّوا بمعاناة كبيرة لشعوبهم، وكان خنوعهم سبباً للتخلف التنموي والاقتصادي.