المعرفة المقاوِمة: حزب الله يروي قصّة تحرير جنوب لبنان

*حسام مطر*
العصر-أخيراً، قدّم حزب الله روايةً كاملة موثّقة لتحرير جنوب لبنان بعد ربع قرن تقريباً (عام 2000)، وذلك من خلال وثائقي «ثلاثة أيام وعقدان» الذي أعدّه الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية بالتعاون مع مؤسسة «حقيقت» من الجمهورية الإسلامية في إيران. يتوزّع الوثائقي على عشر حلقات تبدأ من إطلاق المرشح لرئاسة حكومة العدو إيهودا باراك في آذار 1999 وعداً بالانسحاب من جنوب لبنان خلال عام في حال فوزه، وتلا ذلك رفض الحكومة اللبنانية مقترحات رئيس الوزراء حينها بنيامين نتنياهو للتفاوض حول الانسحاب.
كان التحرير فعلاً تسلسُلياً وصل إلى ذروته في 25 أيار من عام 2000، فالخط البياني للاحتلال الإسرائيلي كان انحدارياً مع تصاعد ثابت لأنشطة المقاومة كمّاً ونوعاً. فقد شهدت المرحلة بين عامي 1982 و 2000 ما مجموعه حوالي 6000 عملية عسكرية للمقاومة الإسلامية وحدها (عدا عمليات باقي حركات المقاومة) تخلّلها أكثر من 30 ألف فعل عسكري (هذه الأرقام بحسب أرشيف المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق)، ومن ضمنها إفشال المقاومة لعمليات حربية للعدو عام 1993 (تصفية الحساب) وعام 1996 (عناقيد الغضب)، ما وضع الردع الإسرائيلي أمام أسئلة حرجة بمواجهة عدو لا يشبه الجيوش العربية المهزومة. أنتج هذا الضغط الزاحف على الاحتلال وعملائه قبل التحرير سلسلة انسحابات من مواقع على تخوم المنطقة المحتلة (مواقع المحيسبات، الصلعة، علمان الشومرية، عرمتى، تومات نيحا، سجد…) أنتجت تداعيات نفسية وسياسية وميدانية خرجت عن سيطرة الاحتلال وانتقلت فيها المقاومة نحو المبادرة المتواصلة، ما جعل بنية الاحتلال تتحطّم ببطء إلى أن تداعت خلال الأيام الثلاثة من التحرير.
تضمّن الوثائقي سرداً متكاملاً مدعّماً بمقابلات خاصة (بما فيها مع الأمين العام لحزب الله)، ووثائق تُنشر للمرة الأولى، وجهداً توثيقياً كبيراً سمح بتتبّع أحداث التحرير بالساعات والأيام على المسارات العسكرية والأمنية والشعبية والسياسية. وقد أتاح جمع هذه الأحداث ومزامنتها فهمَ التفاعل الديناميكي بين برامج عمل المقاومة والعدو، وهو تفاعل كان يجري تحت ضغوط الوقت والمخاطر والغموض. في هذا المقال نستخلص 10 ملاحظات مفتاحية حول التحرير وفق ما ظهر في الوثائقي.
1. *التراكم والتعلّم:*
ظهرت فكرة التحرير الشعبي في شباط 1999 بعدما تجرّأ 3 شبان على اقتلاع الشريط الشائك الذي وضعته قوات الاحتلال الإسرائيلي لضم قرية أرنون إلى المنطقة المحتلة، وذلك بالرغم من تهديدات الاحتلال، ما كشف عن فجوة في السلوك الإسرائيلي مسّت بهيبته. يومها تمكّن جمعٌ من أهالي المنطقة من إعادة فتح الطريق نحو البلدة وإعادتها إلى المناطق المحرّرة تحت عدسة الكاميرات مع كل مشاعر التحدّي وكسر إرادة المحتل. كان ذلك الحدث من ناحية ميدانية شديد التواضع ولكنه من ناحية نفسية كان محورياً بفعل دور الإعلام والخطاب المصاحب له في وقت بدأ فيه الحديث الإسرائيلي عن الانسحاب من جنوب لبنان، أي إن الوعي الشعبي العام كان دخل بالفعل زمن الانتصار والتحرير. بقيت حادثة أرنون حاضرة في الوجدان العام للجنوبيين وتمّ استرجاعها وهم يقتلعون العوائق ويستعيدون قراهم المحتلة مع بداية أيّام التحرير بعد عام و3 أشهر. لكن ما كان يمكن لتجربة التحرير الشعبي أن تُستنسخ من دون مظلة الردع الصاروخي للمقاومة التي تكرّست في نيسان 1996 وإلا لما تردّد جيش الاحتلال في استهداف قوافل المدنيين وإحباط تقدّمهم نحو المناطق المحتلة. من هنا يتبيّن أن تصورات الناس لا تصنعها معارك كبرى فقط بل منجزات متراكمة، بما في ذلك غير المخطّط لها، يغذّي بعضها بعضاً. ثم إن التراكم يُبنى على الإخفاق أيضاً، إذ يكشف الوثائقي أنه في بداية أيار 2000 جرت محاولة لتنفيذ عملية أسر كبيرة على طريق كوكبا ولكنها انكشفت وأُلغيت، إلا أن الإجراءات التحضيرية لها تبدو مشابهة لما جرى لاحقاً في عمليات الأسر الناجحة بعد التحرير، ولذا من المرجّح أن تكون الاستعدادات الواسعة لعملية كوكبا قدّمت دروساً للعمليات التي تلت.
2. *يد القدر:*
كان لاصطدام مروحيتين للعدو متجهتين إلى لبنان ومقتل 73 جندياً إسرائيلياً على متنها في شباط 1997 أثر تحفيزي لتيار الانسحاب من لبنان. بعد الحادثة بأربعة أشهر ظهرت في الكيان «حركة الأمهات الأربع» التي أطلقت حملات شعبية للمطالبة بانسحاب الجيش من لبنان. وقد عزّزت هذه الأحداث طرح الانسحاب من طرف واحد بعد فكرة الانسحاب المشروط. دفع تأثير حركة الأمهات الأربع بقائد قوات الاحتلال في جنوب لبنان إيرز غيرشتاين، قبل أن تقتله المقاومة، إلى اعتبار الحركة توهيناً لعزيمة العملاء وتشجيعاً للمقاومة. لذلك غالباً ما تظهر في أي صراع أحداث وآثار غير متوقّعة تعكس مصادفات أو سوء حسابات أو عناية وموفقية إلهيتيْن (من مندرجات الإيمان بالغيب) تعزّز أو تكبح المسارات المخطّط لها. مثلاً، في الأيام الأخيرة للتحرير كاد موكب قيادي للمقاومة أن يدخل موقع بلاط الملاصق للحدود مع فلسطين المحتلة ولكنه آثر إكمال الطريق نحو القرى المسيحية المحررة لضمان الإجراءات الميدانية الرامية إلى طمأنة سكانها (كان باراك مهتماً في الأسابيع الأخيرة بالسعي لاغتيال المسؤول الجهادي لحزب الله عماد مغنية الذي تسلّم مسؤوليته هذه قبل تسعة أشهر من التحرير). بعدها مباشرة اتجهت قوة من المقاومة نحو الموقع…