( المقولة والأمثولة في فكر الإمام علي)

العصر-
– دين الانقسام ؟ أم دولة الانسجام؟
– كسب معاوية زمنه – وكسب علي كل الأزمنة..
– حقوق المعارضة وحق السلطة .
-مقولات كبرى – لتحولات كبرى .
الكثير من البحوث والدراسات التي تناولت شخصية الإمام علي ، ركزت بمعظمها على الجوانب الفقهية والحكمية والأخلاقية والبلاغية في شخصيته ،ومن ثم غابت عنها جوانب أخرى ذات أهمية كبيرة في تلك الشخصية ،تلك المتعلقة بالجوانب الحقوقية والسياسية التي تأطرت برؤية شمولية ذات أبعاد استراتيجية يمكن ان يطلق عليها استراتيجية (زرع الأزمنة ) تمهيداً لما سيأتي لاحقاً من تحولات كبرى في مسار البشرية ،وقد يكون بذلك أول من تنبه الى ما سوف يكون أحد القوانين الرئيسة الثلاثة في (الديالكتيك) الذي سيظهر بعد قرون عديدة (التراكمات الكمية – تنتج تحولات نوعية)
الدارس والمتتبع لمجموع الطروحات الفكرية للإمام علي ،سيجد إن هناك تأسيسات لمقولات كبرى ستصبح ركائز في بناء دولة يحملها المستقبل ،دولة يكون فيها للإنسان دور حاسم ومقرر على حساب الحاكمية المطلقة ,ومن ثم يمكن استخلاص العديد من النتائج التي طرحها الإمام في حياته ،تعبر عن امتلاكه نظرة استراتيجية كبرى تمتد عبر الأزمنة ومن ثم يمكن القول انه أول من اتبع استراتيجية (زرع الأزمنة) التي ستكون محوراً رئيسا في استراتيجيات الأمم المتطورة لتحقيق أهدافها الكبرى .
لقد رأى الإمام علي ما حلّ بالإسلام بعد وفاة صاحب الرسالة (النبي محمد) ومن ثم بداية الصراعات التي ستأخذ طابعاً حادّاً في سبيل الإمساك بالسلطة ،ومن طبيعة التحالفات التي تشكلت بسرعة بين وجوه قريش ،أدرك إن فرصته في جعل الثورة المحمدية ممكنة التجسد ،أصبحت
مستبعدة ،فما أن بويع مرشح التسوية (أبو بكر الصدّيق) حتى بدأت الحاكمية تكشف عن توجهاتها التي اتخذت طابعاً عنفياً، كانت نتيجتها أن حوصرت قبائل عربية وقتل بعض رجالها في ما سمي بحروب الردّة .
الثورة الإنسانية الكبرى برسالتها السماوية ونبيها الأمين ،كان من الواضح إنها ستتخذ مسارات تبتعد عما جاءت من اجله في أنسنة الإنسان وتنظيم أموره سواء من خالقه الأعظم (الله)أو مع الإنسان الآخر، كي لا يتحول الدين إلى دولة الانقسام ، بديلاً لدولة الانسجام .
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) الآية تضع الأساس للعلاقة المفترضة بين الناس وبين من يتولى أمورهم ،ولما كان تولي أمر الناس الدنيوي ،يتطلب استعداداً وتهيئة وكفاءة وقدرة ،لذا كان لابد من اختيار من يكون مؤهلاً لذلك كي يكون للطاعة معنى انساني يسوده العدل من الحاكم ،والالتزام من المحكوم .
لكن المسارات اللاحقة لدولة الخلافة ،جعلت القسر وحده مقياساً للطاعة ،والشوكة وحدها معياراً للشرعية ،فاشتقت فتاوى تلزم بالطاعة لمن امتلك القوة (من قويت شوكته – وجبت طاعته.
ما كانت أزمنة عهده ،لتمكنه من تحقيق استراتيجية كبرى من شأنها تغيير مسار البشرية من ملوك الحقّ الإلهي ،إلى دولة المواطنة والفرص المتكافئة ،فقد كان الزمن يتفاعل مع من يستطيع التلاعب بها وملأها بالخديعة بالثواب من جهة ،والتهديد بالعقاب من جهة أخرى ،وتينك سلاحان خطيران ومؤثران في حياة البشر في كل مكان ،فالحاكم الذي يدعي انه يمثّل الله على الأرض بتكليف حصري ،كان يقسم الناس صنفين : منعمّ عليه مقرّب – ومغضوب عليه مبعد أو مطارد أو معتقل او مقتول ،لذا كانت الخيارات شبه معدومة في معارضة الحاكم في ثوابه وعقابه .
كان لابد من وضع أسس لتغيير المعادلة ،ولكي تكون فاعلة وإن مؤجلة ،كان لابد زرع (المقولة والأمثولة) المقولة النظرية التي تتجنب الوعظ المباشر وتقدم ما يحفزّ الإنسان على التفكر في محتواها ومقصدها ،ولكي يكون ذلك ممكناً ومن ثم تستطيع التلاؤم مع متغيرات الأزمنة ،كان لابد من ربط المقدس السماوي ،بالمتفاعل الأرضي بجدلية علائقية تخرج معادلة الثواب والعقاب ،من سياقاتها التي تستغلها الحاكميات لصالحها ، الى رحاب أكثر إنسانية تحقق للناس عدالة ،وللحاكم اتزاناً والتزاماً .
أما الأمثولة ،فتتعلق بالسلوك الشخصي تجاه الرعايا ،وكيفية معاملة المعارضين منهم على وجه الخصوص ،فمما يروى أن خارجيا دخل ديوانه يوماً فخاطبه دون سلام :يا علي ،لا أعترف بك خليفة ،ولا إماماً ، ولا اصلّي وراءك أو أطيع لك امراً ،فابتسم الإمام قائلا: لك كل ذلك ،ولك ما للمسلمين من عطاء ،على ان لا ترفع عليهم سيفاً .
كانت تلك قاعدة في السلوك الحضاري مع المعارضين مفادها :لك حرية الرأي كاملة بما فيها مخالفة الحاكم ،ولك أن لا يحاصرك في رزقك أو عيشك، على ان لا ترتكب عنفاً أو جناية بحق الآخرين .
تلك هي القاعدة التي ستعرفها (دولة المواطنة والعقد الاجتماعي )بعد ذلك في أزمنة بعيدة وامكنة اخرى بعيدة كذلك ،حينما اطاحت الشعوب بملوك وحكّام الحقّ الالهي المسنودين من رجال الاكليروس في أوروبا ، (ربيّ ما عبدّتك خوفاً من عقابك – ولا طمعاً في ثوابك ،أنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) .