بزوغ ثورة فلسطينية حديثة يكشف إسرائيل فتقلق
مجلة تحليلات العصر الدولية - سامي كليب
ما جرى في فلسطين في الأسبوع المنصرم، يحتاج الى مسافة زمنية كي يُقرأ بدقة، لكن تجليّاته الأولى تؤكد أننا أمام مشهد غير مسبوق، أعاد الوهج للداخل الفلسطيني، وأحدث هبّة شعبية عربية جدّدت الوجه العربي لفلسطين، وأثار تعاطفا لافتا على مستوى العالم، وأزال الكثير من الأقنعة التي سعى الإحتلال طويلا لإستخدامها وتقديم نفسه على أنه ” الواحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، ولا شك أن تقنيات التواصل الحديثة “السوشال ميديا”، أعطت دفعا هائلا لقضية العرب الأولى.
هذه أبرز التجليات:
· فاجأ السكان الأصليون الذي يُسمّون ب ” عرب 48″ وهي تسمية جائرة وعنصرية، إسرائيل ولكن أيضا الفصائل الفلسطينية وكل العالم، بإنتفاضتهم. فقد تحرّكت مناطق كان الجميع يعتقد أنها ما عادت قابلة للتحرّك منذ أكثر من نصف قرن. أحدثت انتفاضتهم زلزالا نفسيا عند الإسرائيليين قيادة وشعوباً ( كي لا نقول شعبا واحدا لأنهم ليسوا كذلك)، فقد تبيّن أن سياسة الإحتلال والإستعمار والاستيطان بكل بطشها وإغراءاتها، فشلت في ترويض السكان الأصليين وإقناعهم بأن حياتهم كمواطنين من الدرجة الثانية في دولة يهودية أفضل من تحرّرهم أو انتقالهم الى مناطق السلطة.
· عبّر فلسطينو الداخل عن رفضهم تكرار خطأ ما قبل تقسيم فلسطين، فعصابات المستعمرين الجدد التي هجمت على حي “شيخ جرّاح”، ذكّرتهم بعصابات القتل والذبح والتهجير التي جاءت من كل أصقاع العالم بتدريبها العالي وتجهيزها وحقدها تهجّر قرى بكاملها قبل وبعد 1948. أظهر ذلك أن الجيل الجديد من أبناء الأرض، أكثر صلابة وتمسكا بحقه مما إعتقد الإحتلال والعرب والفلسطينون أنفسهم.
· التمسك بحي شيخ جرّاح له رمزية كبيرة في الوجدان الفلسطيني والإسلامي، ذلك أن هذا الحي يُعتبر-مع أحياء نادرة باقية- الطوق العربي والإسلامي للمسجد الأقصى. فلم يكن التمسك به هو فقط من أجل المنازل التي يقطنها أهلها منذ تهجيرهم اليها في العام 1948، وإنما لارتباط شيخ جراح العضوي أيضا بالمسجد ذي الرمزية الكبيرة عند الفلسطينيين ومسلمي العالم.
· مع فتح جبهات ثلاث ضد المُحتل، اي أهل الداخل، والضفة، وغزة، توسّعت رقعة الخلاف بين بنيامين نتنياهو-المستعد لحرق الأخضر واليابس كي لا يدخل السجن بتهمة الفساد لو رُفعت الحصانة الحكومية عنه- وقيادات أمنية في مقدمها جهاز الشاباك الأكثر خبرة بالفلسطينيين، ذلك أن هذه القيادات الأمنية حذّرته من أن الإقدام على تهجير الناس من شيخ جرّاح قد يؤدي الى انتفاضة. ثم ان فتح الجبهات الثلاث، اثار القلق الوجودي العميق لدى كل الإسرائيليين، بأنهم كانوا وسيبقون منبوذين من أهل الأرض طالما لم يقتنعوا بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة غير مقطعة الأوصال ولا خاضعة لاحتلال.
· أدّت وسائل التواصل الإجتماعي دوراً مزدوجاً كبيرا، فمن جهة ساهمت في نشر وحشية المُحتل، ذلك أن اقل إعتداء منه على شاب فلسطيني، يفوق بعشرات المرات قتل الشرطي الأميركي للشاب ذي الأصول الأفريقية جورج فلويد، ومن جهة ثانية، أظهرت ان الرأي العام العربي، بكل أطيافه، حتى في الدول التي قيل إنها نسيت القضية وطبّعت مع إسرائيل، قد هبّ من المشرق والخليج ومصر الى المغرب، نصرة للشعب الفلسطيني ورفضا للمُحتل ومن يدعمه.
· الهبّةُ العربيةُ المناصرةُ للشعب المُكافح ضد الظُلم والقهر والعنصرية، أفقدت نتنياهو والعصابات العنصرية حوله، الشمّاعة التي كان يلجأ اليها دائما ليعلّق عليها كل الصراع العربي الإسرائيلي، أي إيران. فاذا كان يستطيع إتهام الفصائل الأسلامية في غزّة بالحصول على سلاح ومال وتدريب من إيران، الأ ان المشكلة هذه المرة كانت في الداخل، أي في مكان لا تستطيع أيران وحزب الله الوصول اليه، وكانت المشكلة أيضا مع العمق العربي ومع العمق الاسلامي السُّني، ومع العمق المسيحي أيضا، ما أعاد القضية الى أصلها، اي الى جوهر الصراع العربي-الاسرائيلي، وهذا ما أحرج أيضا أنظمة عربية كانت قد بدأت تتصرف على أساس أن القضية صارت خلف ظهر الجميع. كانت نظرةٌ واحدة الى وسائل التواصل الإجتماعي خصوصا النقاشات العميقة عبر clubhouse كافية للتأكد من أن الراي العام العربي والنخب العربية كانوا في غاية الحماسة والتأييد للهبّة الفلسطينية الشاملة. هذا خفف أيضا من إحتكار طهران وحلفائها للقضية الفلسطينية في السنوات الماضية حتى ولو انهم سيفيدون منه على أساس انه نجاح لأحد محاور المحور. لكن الوهج العربي عاد بصورة باهية الى القدس.
· في الجانب العسكري، تجد إسرائيل نفسها في محنة حقيقية، لا بل أمام مسألة وجودية عميقة. ذلك أن ظهور صواريخ طويلة المدى عند الفصائل الإسلامية، وفي قلب منطقة ضيقة ومحاصرة، أي غزة التي فيها أكبر كثافة سكانية في العالم، ومقطّعة الأوصال مع محيطها منذ سنوات، يُظهر فشل الاستخبارات الإسرائيلية في منع وصول أو تصنيع هذه الصواريخ، ويُظهر أيضا أن هذه الفصائل نجحت بعد حربين ضروسين شنتهما اسرائيل ضد القطاع، في تطوير أسلحتها وتحديثها رغم الحصار. هذا يعني أن المحور الأوسع الذي تتحرك الفصائل الإسلامية في إطاره والمدعوم من إيران، بات يملك منظومات حديثة من الصواريخ التي تطرح أكثر من علامة استفهام وقلق عند الجانب الاسرائيلي في حال حصول حرب شاملة. هذا سيفرض منطقا جديدا في التفاوض الإيراني الأميركي، ذلك ان الصواريخ الباليستية الإيرانية ما عادت وحدها المُقلقة وأنما كل ما يملكه المحور.
· جاءت الهبة الفلسطينية والحرب مع غزة، في لحظة التراخي السياسي والانفتاح العربي على اسرائيل، ولكن أيضا في لحظة استعداد القيادة العسكرية الإسرائيلية للقيام بمناورات واسعة استعدادا لحرب على محاورة متعددة. ثمة معلومات تقول إن جيش الإحتلال كان يُعدّ لشيء ما ضد حزب الله في هذا الصيف، ولذلك كانت تحذيرات أمين عام الحزب في آخر خطاب له واضحة ضد أي جنوح اسرائيلي في المناورات. لكن انفجار الجبهة الداخلية في فلسطين، فاجأ الجميع، ولا شك أنه يغيّر الآن كل الحسابات الاسرائيلية حول طبيعة الصراع او الحرب مستقبلا. تماما كما أنه قد يكبح جماح الانفتاح العربي على إسرائيل. كان عدد الشباب الخليجي مثلا الذي انتفض عبر وسائل التواصل الاجتماعي نصرة لفلسطين لافتا رغم شعارات التطبيع وصفقة القرن وغيرها.
· أربك الوضع الداخلي في فلسطين وكذلك الهبة العربية ، القيادة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن. صحيح أن هذه القيادة، تبنّت سلسلة الكلام الأميركي الممجوج في كل العهود حول ” حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكن الاستياء الأميركي كان واضحا حيال قتل الأطفال والاعتداء على الآمنين في شيخ جراح، واستعادت واشنطن العبارات الأهم حيال المستقبل غير المحسوم للقدس والأراضي المحتلة في الضفة. ومن يراقب الحركة الدولية يشعر فعلا بأن هذه من المرات القليلة التي يقال بين السطور ما يؤكد أن الكيل قد طفح من ضرب اسرائيل كل أسس السلام عرض الحائط.
· في اقل من أسبوع تقهقرت صورة الجيش الإسرائيلي والاستخبارات عند شعوبها، وانتشرت التصريحات الاسرائيلية المحذّرة من زوال أسرائيل أو من مستقبل أسود أو من حرب داخلية، وتدهورت صورة دولة الاحتلال عبر العالم بسبب مشاهد الأطفال وهدم البيوت والمستعمرين العنصريين ضد السكان الآمنين… هذا سيدفع التطرف الاسرائيلي الى أقصاه في معاقبة أهل الداخل وسيفرض نوعا من حال الطواريء غير المعلنة، وستنكّل الأجهزة الأمنية بمن تجرأ على الانتفاض، وسيزيد الانتقام من غزة، لكن الأكيد أن كل ذلك ما عاد ينفع، لقد انتفض الوعي الفلسطيني والعربي على نحو جديد، واهتز الوعي الاسرائيلي بالعمق، وعلى إسرائيل مراجعة كل سياستها الاستعمارية العنصرية والعودة الى التفاوض المؤدي حتما الى قيام دولة فلسطينية مستقلة وغير مقطعة الأوصال وعاصمتها القدس الشرقية، والا فإن ما يقوله قادتها عن القلق الوجودي على مستقبلها، صار أمرا حتميا، طالما أن الشعب الأصيل و بعد أكثر من 73 عاما من الاحتلال، قال إنه يلفظ هذا الاحتلال الذي فقد آخر شبيه له قبل عقود طويلة في جنوب افريقيا بفضل نضال نلسون مانديلا ورفاقه.
لا شك أن فلسطين، أمام لحظة تاريخية، تؤسس لثورة حديثة لن تهدأ مهما بلغ البطش الاسرائيلي مداه، قبل قيام دولة فلسطينية حقيقية. لعل القلق الاسرائيلي في محله، من أن آخر نظام عنصري في العالم، بات مهددا بالزوال، وأن الشعب الفلسطيني الذي تخطى هذه المرة كل قياداته، هو أكبر من أن يبتلعه مستعمرون عنصريون تم تجميعهم من كل أصقاع الأرض لتزوير التاريخ ونهب الجغرافيا وقتل الانسان.