-سماهر الخطيب-البناء
أثارت الاحتجاجات في بيلاروسيا الغريزة التدخلية للرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قال إنّ بلاده ستتحدث مع روسيا بشأن الوضع في جمهورية بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، واصفاً احتجاجاتها بـ»السلمية».
وأضاف ترامب، في حديث للصحافيين بالبيت الأبيض، أنه «لا يبدو أن هناك الكثير من الديمقراطية في بيلاروسيا، التي شهدت موجة من الاحتجاجات التي أشعلتها انتخابات الرئاسة قبل عشرة أيام والتي يقول المعارضون إنها سُرقت».
وبدأت الاحتجاجات الجماهيرية في جميع أنحاء بيلاروسيا في التاسع من آب، عقب الانتخابات الرئاسية، التي فاز بها رئيس الدولة الحالي، ألكسندر لوكاشينكو، وحصل فيها على 80.1% من الأصوات، وفقًا للجنة الانتخابات المركزية. لكن المعارضة لم تعترف بالنتائج.
لقي موقف المعارضة تأييداً من الغرب. والتي أعلنت تشكيل مجلس تنسيق لنقل السلطة، ويعمل المجلس التنسيقي على أساس المبادئ الأساسية لدستور جمهورية بيلاروس، ولا يضع لنفسه هدف الاستيلاء على سلطة الدولة بوسائل غير دستورية، ولا يدعو إلى تنظيم إجراءات تنتهك النظام العام، وفق ما أعلنته المرشحة الرئاسية للانتخابات البيلاروسية سفيتلانا تيخانوفسكايا.
وفي العودة إلى موقف الغرب الذي لا يريد أن يؤدي الوضع في بيلاروسيا إلى نزاع ضخم جديد مع روسيا، فذاكرته ما تزال حيّة تنذر بما شهده قبل سنوات ست مضت في أوكرانيا. وهذا ما يبرّر ردة الفعل الغربية المنضبطة إلى حد ما حتى الآن.
إنما ردة فعل دول البلطيق الثلاث وبولندا، مخالفة لرد فعل الغرب فهم يحومون حول لوكاشينكو، معتقدين بإمكانية تغيير الحكومة هناك.
فيما يبدو أن لوكاشينكو قد أكد، من جديد، السير نحو دولة اتحادية مع روسيا. فمن الناحيتين الأمنية والاقتصادية، يدرك لوكاشينكو جيداً أن العلاقة مع روسيا مهمة جداً بالنسبة له.
كما لا يمكن لحلف الناتو التدخل في شؤون بيلاروسيا، حيث أن مينسك حليف عسكري لروسيا. فمن شأن ذلك أن يكون مشابهاً لتدخل روسيا في أراضي الناتو. وبالتالي لا يمكن تحت أي ظرف أن تحاول قوات الناتو عبور حدود بيلاروسيا للوقوف إلى جانب المعارضة أو لشيء آخر. فمن الممكن لتصرف مماثل أن يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة؛ والغرب يفهم هذا جيداً.
كما أن الاحتجاجات في بيلاروسيا لن تكون كتلك التي حدثت في أوكرانيا، كذلك نتائجها التي لا تزال إلى اليوم قمة النورماندي الرباعيّة عاجزة عن حل الأزمة التي ولّدتها تلك الاحتجاجات.
في المحصلة، تجاوزت الأزمة السياسية في بيلاروسيا، أبعادها الداخلية لتمتد إلى الأبعاد الاستراتيجية للدول المجاورة بعد أن أعربت روسيا عن استعدادها لدعم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو عسكرياً، ما قد يحوّل مينسك إلى مسرح جديد للصراع الروسي الأميركي الأوروبي على خارطة النفوذ. إلا أنّ أقصى ما سيقوم به الاتحاد الأوروبي هو فرض عقوبات «محدّدة» ضد بيلاروسيا. مع إدراكه ويقينه بأنه يفتقر إلى فرص واسعة للضغط على بيلاروسيا. فإذا مارس ضغطاً شديداً عليها، فلدى لوكاشينكو فرصة دائمة للانضمام إلى روسيا، أمام ما يتعرّض له من ضغوط أوروبية وأميركية وهو ما يخشاه الغرب.
أما روسيا فتراقب عن كثب تطورات الأوضاع في جارتها بيلاروسيا حيث تستضيف مينسك خطوط أنابيب تنقل صادرات الطاقة الروسية إلى الغرب، وتنظر إليها موسكو أيضاً على أنها منطقة عازلة ضدّ حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
ويرى مراقبون أن التلويح الروسي بتقديم الدعم العسكري لمينسك يدخل في باب منع أيّ هزة سياسية في جوارها يمكن أن ينفذ منها الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي العدوان لها، حيث تشكل روسيا البيضاء وأوكرانيا ومولدوفا منطقة عازلة بين روسيا والغرب.
وبناء على ذلك تنظر موسكو إلى الاحتجاجات الداخلية التي تعصف بمينسك على أنها «خطر» على أمنها القومي ومصالحها الجيوستراتيجية، ما يرغمها على الاستعداد للتحرك وفق تطورات الأحداث كما فعلت من قبل في كل من أوكرانيا وجورجيا الجمهوريتين السوفياتيتين السابقتين.
وضمت روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها بعد أن كانت تتبع أوكرانيا، عقب استفتاء جرى في شبه الجزيرة في 16 آذار 2014.
ويعتبر محللون أن «أوكرانيا هي التي تصنع صورة روسيا كقوة عظمى أو هي التي تكسر هذه الصورة»، ويضيفون أن «روسيا من دون أوكرانيا هي مجرد بلد، بينما روسيا مع أوكرانيا هي إمبراطورية».
ويبدو السيناريو الأوكراني غير مستبعَد في بيلاروسيا، بعد إعلان موسكو أنها مستعدة لتقديم الدعم العسكري لمينسك وفق اتفاقية دفاعية ثنائية.
وليس في أوكرانيا فحسب، ففي جورجيا المجاورة، لا تزال الذاكرة يقظة حين نشب خلاف بين موسكو وتبيليسي حول طموحها للانضمام الى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهو ما تعتبره روسيا في حال حصل، انتهاكاً خطيراً لمنطقة نفوذها.
وفي صيف 2008، تحوّلت هذه التوترات إلى نزاع حين تدخل الجيش الروسي في الأراضي الجورجية لنجدة أوسيتيا الجنوبية، الموالية لروسيا، التي أطلقت فيها تبيليسي عملية عسكرية دامية.
وخلال خمسة أيام، ألحقت القوات الروسية هزيمة بالجيش الجورجي وهددت بالسيطرة على العاصمة.
وأدّى اتفاق سلام تفاوض عليه الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي إلى انسحاب القوات الروسية، لكن موسكو اعترفت باستقلال منطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا واحتفظت منذ ذلك الحين بوجود عسكري كبير فيهما.
وبالتالي أمام هذه السيناريوات والضغوط التي يتعرض لها الرئيس البيلاروسي ربما سيجد نفسه مضطراً للاتحاد مع روسيا، في دولة واحدة بعد أن رفض في وقت سابق مقترح الرئيس فلاديمير بوتين، إعلان الوحدة الكاملة بين الشقيقتين السوفياتيتين السابقتين.. وينقلب السحر على الساحر..