بين “العقبة” و”شرم الشيخ” كثير من الدماء والسياسة
بقلم: فراس ياغي
العصر-عندما عُقدت قمة “شرم الشيخ” في العام “2002” وفي خِضم الإنتفاضة الثانية في محاولة لوضع خطة عمل سياسية وأمنية تؤدي لإنهاءها، وما نتج بعد ذلك من مُعطيات أدت لفشلها ولم يتمكن المؤتمرين أنذاك من تطبيقها وإستمرت الإنتفاضة حتى إستشهاد الرئيس الخالد “أبو عمار”، حيث تم التوصل لخطط تؤدي للتهدئة أساسها العمل السياسي وإعادة إحياء المفاوضات والعملية السلمية وإجراء الإنتخابات التشريعية والتي سبقها إنتخاب الرئيس “أبو مازن” والإنتخابات البلدية.
قمة “شرم الشيخ” التي عُقدت تحت عنوان محاربة “الإرهاب” بسبب ما حدث للبرجين في “الولايات المتحدة” والتغيرات التي حدثت نتيجة لذلك وأدت لاحقا لغزو “أفغانستان” وتدمير “العراق” لم تستطع وضع حد للإنتفاضة الثانية بسبب عدم وجود خطة سياسية قادرة على إحتواء الواقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وحاولت التعامل معها وفقا لمفاهيم أمنية بعيدا عن جوهر القضية وهي الإحتلال والإستيطان، لذلك لم تحقق مُخرجاتها وكانت إحتفالية أكثر من كونها قمة وضعت حلول لما كان يحدث في الأراضي العربية المحتلة، لكن النتائج لاحقا أدت لوضع خطط إستراتيجية كان أساسها الإنسحاب من “قطاع غزة” ومن بعض المستوطنات في شمال الضفة تحضيرا لفك الإرتباط لاحقا ليس مع “غزة” فحسب، بل مع التجمعات السكانية في “الضفة الغربية” من طرف إسرائيلي واحد وفقا لما يعرف بإسم خطة “شارون” التي لم تتحقق ولن تتحق لأن اليمين الصهيوني الديني اليميني يرى في الضفة والقدس ككل هي اساس ومبرر إسرائيل بإعتبارها أرض توراتية لا إنسحاب منها.
اليوم تعيد “الولايات المتحدة الأمريكية” إجترار خُطط الماضي وفرضه على الحاضر وبغض النظر على طبيعة المتغيرات التي حدثت منذ ذاك الوقت وحتى اليوم وتحت عنوان وضع حد لما يجري في الضفة الغربية وبالذات في شماله، ووفق تفاهمات جديدة مع حكومة لا يمكن التوصل معها لتفاهمات حقيقية بسبب طبيعة برنامجها من جهة وطبيعة الإئتلاف القائم الذي يحوي أعتى أحزاب التطرف الشوفيني الديني الذي لا يعطي إعتبار للمجتمع الدولي وجل تفكيره ينطلق من مرتكزات توراتية أيديولوجية.
قمة العقبة التي ستعقد غدا برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية هي محاولة لوضع خطط عملية تكون قادرة على تخفيف التصعيد القائم في الضفة والقدس والذي قد يمتد ويتوسع بدخول قطاع غزة على الخط، هذه القمة التي يتحدث عنها الإعلام الأجنبي والعبري وكأنها تجمع أمني يهدف لضرب المقاومة وبالذات في مدن “نابلس” و “جنين” من خلال تدريب خمسة آلاف من قوات الأمن الوطني قادرة على مواجهة المقاومين، وفي نفس الوقت زيادة عدد قوات الأمن الوطني الفلسطيني بعدة آلاف يتم تدريبها أيضا في نفس السياق، إضافة إلى تعزيز التفاهمات التي اساسها وقف الممارسات إحادية الجانب من قبل ما أسموه الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، رغم أن الواقع يقول أن هناك طرف واحد هو الإحتلال وأن ما يقوم به الطرف الفلسطيني ليس سوى ردات فعل على ممارسات الطرف المعتدي والمحتل.
على الرغم من أن ما عُرفَ ب “التفاهمات” التي أدت لوقف عرض مشروع القرار الفلسطيني على “مجلس الأمن” للتصويت ضد قرارات حكومة الإستيطان والتطرف الديني القومي الفاشي سبقت مجزرة “نابلس” وأن قمة “العقبة” حُددت بناءً على تلك التفاهمات، إلا أن ما قام به الإحتلال بعد هذه التفاهمات بيومين يؤكد أن كل ما تم الإتفاق عليه أو سيتم التوافق عليه سيفشل ولن يحقق غاياته بسبب طبيعة الحكومة الإسرائيلية القائمة، ويبدو أن ذهاب السلطة الفلسطينية لهذه القمة نابع من ضغوطات أمريكية وعربية أكثر من كونه قناعة بالمخرجات التي ستخرج عن هكذا قمة، لأن العنوان إتضح بغزو “نابلس” والقيام بمجزرة ستكون تداعياتها زيادة التصعيد، بل إن الواقع الممكن قبلها ليس كما بعدها، وإتضح ذلك بالإستجابة الكبيرة من الشارع الفلسطيني لدعوة “عرين الأسود” وخروجه للشوارع في المدن والمخيمات والقرى كإستفتاء على القادم سياسيا وشعبيا.
الصحفي الإسرائيلي “رون بن يشاي” الذي تحدث عن وجود إنتفاضة فلسطينية منذ العام 2022 هو حديث صحيح كون طبيعة الذي يجري في الضفة والقدس مختلف من حيث الإنتفاضات السابقة الأولى والثانية، فالأولى شعبية وبالحجارة ورافقها بعض من العمليات العسكرية، والثانية عسكرية وفيها الكثير من العمليات الإستشهادية الإنتحارية رافقها مظاهرات وحجارة، أما الذي يجري الآن فهي إنتفاضة تأخذ شكل مواجهات عسكرية محلية نتيجة لإقتحامات مناطق ألف من قبل قوات الإحتلال من جهة، ومن جهة أخرى عمليات فردية صعبة وقوية تُحدث صدمات لدى مجمل أجهزة الأمن الإسرائيلية وغير الإسرائيلية، ويرافق ذلك حواضن شعبية مستعدة للتضحية وتشارك في المواجهة وفقا لقدرتها ولكنها من حيث الوعي تعلم أن المرحلة تتطلب وحدة الحال الوطنية الميدانية لأن المرحلة الحالية والقادمة تستهدف الكل الفلسطيني، ولاحظنا ذلك في “القدس” وفي مدن ومخيمات “الضفة الغربية”، هذه
الإنتفاضة ليست كسابقاتها ولن تكون كذلك ولكنها ستأخذ أشكال متعددة من الإنتفاضة الأولى والثانية مع وجود ميزة أن من يقودها وسيقودها مجموعات من الشباب عابرة للتنظيمات متفقة على نقطة واحدة وهي مقاومة الإحتلال والإستيطان والإشتباك معه عندما يقتحم المدن الفلسطينية كتعبير جلي وواضح عن رفض الهوان والإستسلام وعن الطموح نحو الحرية في حيز جغرافي يؤسس لدولة مستقلة ولا يقبل الوصاية الأمنية مهما كانت عظمة التضحيات، الإنتفاضة القائمة هي تعبير عن الإحباط من كل المعايير المزدوجة الدولية ومما يسمى عملية سلام أدت إلى تعميق الإحتلال وزيادة الإستيطان وتهويد القدس.
بين “العقبة” اليوم و”شرم الشيخ” قبل عِقدين من الزمن هناك سيول من الدماء سالت، وهناك سياسة عملت على إفشال اي إمكانية لتحقيق السلام الممكن في دولتين لشعبين، وهناك حكومة يتزعمها رئيس وزراء ضعيف يريد البقاء خارج قضبان السجون وهو محكوم بوزراء مجانين يبتزونه ويريدون حسم الصراع بإنهاء السيطرة والتهويد للقدس ككل، وفرض الواقع الإستيطاني في الضفة بما يؤدي لضم كافة مناطق “جيم” والتي تُشكل أكثر من 60% من الضفة الغربية، وتشريع ذلك عبر قوانين يصاحبها تطهير عرقي يبدأ بالأسرى وعائلاتهم ويمتد ليشمل كل من لا يعترف او حتى يتحدث ضد الدولة الجديدة كشكل ومضمون، دولة اليهود من البحر إلى النهر الأبارتهيدية والتي تسمح للأقليات بالبقاء بشروط ومفهوم “الأغيار” وفقا للمصطلح “التوراتي”.
ما بعد “العقبة” لن يتغير شيء، فدولة “السامرة” التي أصبح حاكمها الوزير “بتسلئيل سمرتريطش” وزير المالية ووزير في وزارة الجيش، تتشكل قانونيا بعد كل الصلاحيات التي منحت للحاكم الجديد للضفة الغربية والذي سيسرع عمليات الإستيطان والهدم وسيشرع قانونيا العصابات الإستيطانية ك “شبيبة التلال” وغيرها لتصبح الجيش الجديد لدولة “السامرة”، ويساعده حاكم “القدس” وزير ما يسمى الأمن القومي “بن غفير” والذي يعيث خرابا وتدميرا ضد سكانها المقدسيين، إن دولة المستوطنين والتي تفرض أجندتها الآن على حكومة إسرائيل، لاحقا ستقود كل الدولة وسوف تتشكل “إسرائيل” الجديدة التي تحدث عنها الصحفي الأمريكي اليهودي “توماس فريدمان”، وما تحاول الولايات المتحدة عمله في “العقبة” سيؤسس لذلك لأن الحل الحقيقي لمواجهة هذه الحقيقة هو سياسي وليس أمني، ومن يريد تهدئة وإنهاء الإحتلال حتى لو تدريجيا فيكون عبر تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومعاقبة حكومة اليمين المتطرف التي تُدمر دولة “إسرائيل” الحالية داخليا عبر ما يسمى “الإصلاح القضائي” وفي نفس الوقت تُدمر اي إمكانية لبقاء مفهوم الدولتين كحل ممكن.