جريمة إسقاط الجنسية: أنْ تعيش «خارج المكان»
علي الديري
*العصر-نحن لا نسقط إلى الوجود من أرحام أمّهاتنا إلّا في مكان، نسمّيه وطناً*
🔸✨. يتحدّث إدوارد سعيد، في سيرته، عن أمّه، لحظة وصولهما إلى أميركا في نهاية الأربعينيات. يقول: «أضحَتْ شخصاً بلا جنسية بعد سقوط فلسطين» (1). لم تلفتني هذه الجملة حين قرأت سيرته «خارج المكان» قبل عشرين عاماً، لكنها برزت لي وأنا أتصفّح الكتاب الآن، وكأنها «مانشيت» في الصفحة الأولى في جريدة ورقية. كنتُ أقرأ في النسخة نفسها من الكتاب بعد أن طلبت إرسالها إليّ من مكتبتي التي فقدتْها بعد رحيلي عن البحرين عام 2011.
▪️لاحظتُ أنّني لم أفوّت حتى إشارة بقلم الرصاص تحت تلك العبارة، كما كانت عادتي دائماً، قبل أن تتحوّل العادة إلى استخدام قلم «الفلاش» الأصفر. قد تبدو هذه التفاصيل غير مهمّة، لكنّني أجدها لافتة، لأنها تؤكّد لي أن تجربة إسقاط الجنسية تجربة وجودية، وليست تجربة سياسية، أو على الأقلّ الوصف السياسي لا يمكنه أن يستوعبها وإن تضمَّنها.
🔸تجربة وجودية، بمعنى أنه لا يمكنك أن تُدركها بالحديث عنها، بل بتذوّقها وعيْشها، وهذا ما جعلني أكثر اهتماماً بقصّة الأمّ من الابن هذه المرّة. شعرتُ أنّني أشترك معها في تجربة وجودية قاسية. الأمّ التي ولدت في الناصرية وعاشت في القدس، رفضت أن تُقيم سنتَين متتاليتَين في أميركا للحصول على الجنسية. رفضت شرط الإقامة في نهاية الأربعينيات ورفضتْه في نهاية الثمانينيات. فضّلتْ أن تعيش في لبنان على الرغم من مآسي الحرب الأهلية وانقطاع الكهرباء وصعوبة الحياة وفقدان الأمن. وجدت تراب الشام وطنها غير القابل للاستبدال. لم تُرِد أن تعيش في غير مكانها. ولعلّ وصْف سعيد لحياته المبكرة يوضح ذلك: «غير أن الغالب كان شعوري الدائم أنّني في غير مكاني».
🔹المكان هو الوجود، فنحن لا نسقط إلى الوجود من أرحام أمّهاتنا إلّا في مكان، نسمّيه أرضاً أو وطناً أو بلاداً أو سكناً أو تراباً. تتربّى حواسنا على فطرته. تشقّ كلّ حاسة فينا خبراتها الأولى في أرض تتشكّل تجربتها من خلالها، ولا يمكنها أن تَسقط منها. هل هناك شخص يمكنه أن يتخلّص من ذاكرته الأمّ في مرحلة الطفولة؟ إنها الالتقاطة الأولى التي بها ندرك الوجود. تَسقط عليك أسئلة الوجود بقلق لا يمكن تفاديه، بمجرّد أن تَفقد هذا المكان لأيّ سبب من الأسباب، كأن تهاجر أو تُبعَد أو تُسقط جنسيتك أو تُرحَّل. أسئلة من نوع: من أنت؟ إلى أين تنتمي؟ من هي جماعتك؟ كيف سيعرف أبناؤك وطنك المفقود؟ هل يمكنهم أن يشعروا بأبوّتك خارج الأرض التي عرفتَ فيها أباك؟ هل يمكنك أن تألف وطناً لم تتذوّقه طفولة حواسك؟ هل هناك أمل بالعودة إلى وطنك؟ هل سيرث أبناؤك مِحنة وطنهم، كما ورث إدوارد سعيد مِحنة وطنه ووطن أمّه وأبيه؟ هل ستكون أنت وأبناؤك «خارج المكان»؟ هل أنت سبب فقدان أبنائك لحياتهم الأليفة في وطن أجدادهم حيث عائلتهم الكبيرة؟
✨. *تُسقطك حالة «إسقاط الجنسية» في مِحنة وجودية لا علاج لها*
▪️ستُلازمك غصّة لا شفاء منها، وستفرح كثيراً حين تجد كاتباً من وطنك المفقود يعبّر عنها تعبيراً درامياً موجعاً، وهو يتحدّث عن حكاية عائلته التي فقدت وطنها قبل ثلاثة عقود من هجرتك: «غصّة، يهاجرون تاركين بلاداً لم تَعُد لهم، نحو بلاد لن تكون يوماً لهم» (2). هكذا، تُسقطك حالة «إسقاط الجنسية» في مِحنة وجودية لا علاج لها. حتى لو استرجعتَ وطنك وردّوا إليك جنسيتك، فمن يمكنه أن يطبّب الجروح التي فيك؟ ومَن يمكنه أن يمسح شقوة الغربة في روحك؟ ومَن يمكنه أن يُجسّر المسافة بين زمن الإسقاط وزمن الاسترداد، إن كان ثمّة استرداد؟
🔸✨. ما أكتبه الآن هو بمثابة مقدّمةٍ لتقريرٍ يرصد الأرقام، ويُحصي الحالات، ويقدّم الحيثيات. لكن جرح الوجود الذي عاشه كلّ هؤلاء لا يمكن لأحدٍ أن يتحدّث عنه إلّا المجروحون أنفسهم، الذين وجدوا ذواتهم فجأة وقد سقطوا من أرضهم ووطنهم، وصاروا حالة غير مُعرَّفة، يَبحث فيها الحقوقيون، وتُحقّق فيها مكاتب الأمم المتحدة، ويتجاذبها السياسيون، وتتهرّب منها حكومات العالم.