كرّرت الموظفة في شركة السياحة الداخلية، في العاصمة الأرمينية يريفان، سؤالها مرّتين: هل أنتم متأكدون أنكم تريدون زيارة «قره باخ»؟
أسماؤنا العربية التي دوّنتها، ووجود شابّة ترتدي الحجاب معنا، جعلاها تشكّ في رغبتنا بأن تتضمن جولتنا السياحية رحلة لثلاثة أيام إلى «جمهورية آرتساخ»، كما يسمي الأرمن إقليم «ناغورني قره باخ». هذا المكان لا يقصده إلا «الأرمن الأصليّون»، تقول لنا الفتاة التي ساعدتنا في الترجمة، متسائلة بدورها عن سبب رغبة سيّاح عرب ومسلمين في تمضية أكثر من عشرين ساعة (ذهاباً وإياباً) على الطريق لزيارة منطقة غير مغرية لباحثين عن إجازة من العمل. لكن عندما يكون العمل هو الصحافة، لا يبقى مجال للاستغراب. في صيف عام 2015، كان هناك أمران يغريان الصحافي الذي يزور أرمينيا للاطلاع عليهما ولو سائحاً: البحث عن السوريين الأرمن الذين عادوا إلى يريفان وافتتحوا أعمالاً فيها، أو الذين قصدوها للحصول على جنسيتها قبل الانتقال إلى دولة ثالثة، وزيارة «قره باخ»: الإقليم المنفصل عن أذربيجان منذ عام 1991 والذي خاص حرباً طويلة معها انتهت عام 1994 باتفاق هدنة، من دون أن يخلو الأمر من اشتباكات بين الطرفين كانت وتيرتها قد بدأت تزداد في الفترة التي تزامنت مع زيارتنا.
كان الأمر مغرياً لأنه يعني الدخول إلى «دولة» لم يعترف بها أحد تقريباً، لكنها تلقى مساعدة كبيرة من أرمينيا، وليست الجولة السياحية المدرجة على لائحة المواقع المتاحة أمام السيّاح إلا واحداً من وجوه هذه المساعدة. ويبدو أنها من البرامج الناجحة، بدليل العدد الكبير من السيّاح الذين يختارونها، والتسهيلات المقدّمة للشركة في الفنادق والمواقع الأثرية والدينية المدرجة على جدول الزيارات.
«الوفد السياحي» تجاوز عدد أفراده الخمسين وتوزّع على حافلتين. جمال المناظر الطبيعية الممتدة على طول الطريق بين يريفان وقره باخ أتاح تحمّل الرحلة الطويلة التي لم تخل من خطورة بسبب خطورة جبال القوقاز المليئة بالتعرّجات. مشاهد طبيعية ساحرة لا تراها في مكان آخر، وفرادة يميّزها حضور نسائي طاغ في ظلّ هجرة واسعة للرجال. تقف السيدات المتقدّمات في السن على جانبَي الطريق، مرتديات أزياء لا تشبه ما نراه في الأسواق التجارية، لبيع منتجاتهن الزراعية المختلفة للسيّاح العديدين الذين يزورون ما تبقى من «الإمبراطورية الأرمنية التاريخية» بحسب الدليلة السياحية.
بعد نحو عشر ساعات من المسير، تتوقف الحافلتان عند الحدود بين «الدولتين»: أرمينيا وقره باخ، ويطلب منا تقديم جواز السفر للعبور من دون لصق أي فيزا أو طباعة أي ختم عليه. نعبر الحدود، وندخل «جمهورية» جديدة، عاصمتها ستيباناكيرت، وقصرها الرئاسي ملاصق للفندق الذي نزلنا فيه. رفاقنا في الرحلة قدموا من دول مختلفة لزيارة وطنهم الأم: كلّهم من أصول أرمنية، لكنهم يحملون جنسيات أميركية وروسية وأوروبية وسورية ولبنانية. أعمارهم متفاوتة، لكن تفاعلهم مع ما سيرونه لم يبد لنا مختلفاً. الستيني كما العشريني، كما الأربعيني: لا يخفي أيّ منهم تأثره بالروايات التي تبرع الدليلة في سردها بحماسة، سواء كانت قصة دينية، أو أثرية، أو عسكرية. وهذه هي العناوين الثلاثة التي حرص منظّمو الرحلة على تغطيتها من خلال المواقع التي اختاروها لنا.
دينياً، يحتضن الإقليم جبال الكنوز، أو غاندزاسار، حيث توجد إحدى أقدم الكنائس المسيحية. ينتظر سكان المنطقة هناك زيارة السيّاح ولا يفوّتون فرصة التباهي بالانتماء إلى دولتهم، فيرقص أحدهم على حصانه حاملاً علم «آرتساخ»، قبل أن يعرض تنظيم جولة على الحصان في المكان لمن يرغب.
الآثار التي لا تزال قيد الاكتشاف هي أيضاً محطة من محطات الزيارة، حيث فتحت «تيغراناكيرت» أمام الزوّار، وهي المنطقة التي تحمل اسم أبرز ملوك أرمينيا التاريخيين، تيغران الثاني، والتي تشهد حفريات أثرية منذ عام 2005، لإثبات الحضور الأرمني القديم في المكان والذي يقال إنه يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد.
عسكرياً، تعدّ شوشي قبلة الزوّار، وهي تحكي قصة المقاومين الأرمن في حربهم الطويلة مع أذربيجان. تحتفظ المدينة التي تكاد تكون خاوية تماماً بدبابة عسكرية يجري شرح المعارك التي تم خوضها على مقربة منها. شوشي، كما ستيباناكيرت العاصمة، كانتا تشهدان حركة إعادة إعمار وتأهيل لافتة، ولا يخفي من نسألهم أن الكثير من رجال الأعمال الأرمن حول العالم يستثمرون في المكان سواء عبر مساعدة الدولة أو عبر المشاريع السياحية المتعدّدة التي تستقطب السيّاح وتوفّر فرصاً للعمل. لكنّ هذا لم يخف معالم الفقر عن السكان، ومعظمهم من كبار السنّ. يجلس الرجال في الحديقة الجميلة وسط العاصمة، فيما النساء في سوق الخضر الغنيّ بألوانه، يبعن مختلف أنواع الأعشاب والمربّيات والفاكهة المجففة والمعجنات والعصائر الطبيعية، في غياب لافت لعنصر الشباب من الجنسين.
يهدف برنامج الزيارة الذي وضعه منظّمو الرحلة إلى تأكيد الحق الأرمني في هذا الإقليم الذي تبلغ نسبة الأرمن فيه 95%، ما يعني أنّ لهم «الحق في تقرير مصيرهم»، وهي حجّتهم القانونية للمطالبة بالاعتراف باستقلالهم، في حين يرفع الأذريون حجة قانونية مقابلة وهي «السيادة والحدود الدولية»، رافضين أن يكون لأقلية ما في دولة ما الحق في إعلان انفصالها. بينهما، يسقط الضحايا من الطرفين على وقع صراعات الدول الكبرى في منطقة مشتعلة.