حقيقة ما دار بين بوتين ونتنياهو وبينيت ؟
رامي الشاعر
العصر-خلال عقد أو يزيد من الزمان حاولت إسرائيل بشتى الطرق تغيير الموقف الروسي من القضية الفلسطينية، والذي يتجسد في حق الشعب الفلسطيني التمتع بدولته المستقلة على كامل أراضي عام 1967 بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك موقف روسيا من أراضي الجولان السورية المحتلة وضرورة عودتها إلى سوريا.
وكان في صدارة هذه المحاولات بطبيعة الحال السياسي اليميني الذي يرأس الآن أكثر حكومة متطرفة في تاريخ إسرائيل، بنيامين نتنياهو، الذي حاول بكل السبل التقرب إلى القيادة الروسية بتكثيف زياراته إلى موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى أنه تمتع بصيت دولي، أنه يتمتع بـ “علاقة خاصة وقوية” مع بوتين، إلا أن الحقيقة غير ذلك.
بالفعل جرت لقاءات عديدة بين بوتين ونتنياهو، لكن بوتين كان يهتم بهذه اللقاءات استنادا إلى مصالح روسيا ومفهوم سياساتها الخارجية، التي تعتبر أن قضية تسوية الصراع في الشرق الأوسط من بين أولويات السياسة الخارجية الروسية، ولطالما أكد بوتين لنتنياهو على الموقف المبدئي لروسيا بخصوص القضية الفلسطينية، رافضاً أي مبررات من قبل نتنياهو، لا سيما ما يحاول طرحه دائما من أن الفلسطينيين “متطرفين” و”إرهابيين” و”منقسمين”، و”ليس لهم موقف واضح يمثلهم جميعا” ليتم التفاوض معهم، وكذلك ما يعكف على ترديده نتنياهو بصدد أن الأوضاع تغيّرت في المنطقة والعالم، لهذا “ينبغي البحث عن بديل لقرارات الأمم المتحدة التي عفا عليها الزمن”، خاصة ما توصل إليه الإسرائيليون مؤخرا من عقد تفاهمات وصداقات مع بعض الدول العربية.
دائما ما انتظر نتنياهو أن تتجاوب روسيا معه، ومع الولايات المتحدة الأمريكية لتعديل قرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية، إلا أن هذا لم يحدث تحت أي ظرف من الظروف، وكان رد بوتين دائما أن روسيا تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً عن الشعب الفلسطيني، وتعترف بالرئيس الفلسطيني محمود عباس رئيساً شرعياً للشعب الفلسطيني، وتتعامل معه على هذا الأساس، ولطالما أكد الرئيس الروسي على أن الخلافات الفلسطينية أمر طبيعي يحدث في جميع حركات التحرر الوطنية حول العالم، وأن روسيا تسعى لمساعدة الفلسطينيين على تجاوز خلافاتهم، وأن الرهان على الانقسام الفلسطيني لتحقيق تنازلات جزئية من قبل الفلسطينيين هو خطأ فادح من جانب الإسرائيليين، خاصة وأن الحقوق الفلسطينية الوطنية مثبتة في قرارات الشرعية الدولية، وموقف روسيا لا يمكن أن يتغير بهذا الشأن، لا سيما وأن روسيا، في الوقت نفسه، مهتمة بالحفاظ على تطوير العلاقات بينها وبين إسرائيل.
ففي إسرائيل يعيش أكثر من مليون مواطن روسي، وروسيا مهتمة بتطبيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، ولكن ليس على حساب القضية الفلسطينية، وأعاد بوتين التأكيد أكثر من مرة على أن الفلسطينيين والعرب والعالم الإسلامي كافة لا يمكن أن يتنازلوا عن القدس الشرقية، ويجب أن تقتنع إسرائيل بذلك، وتقبله، وتخلي المستوطنات غير الشرعية التي تم بناؤها على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، أو التوصل لاتفاق بديل لذلك مع الفلسطينيين.
وبالمناسبة، فإن علاقة الرئيس بوتين بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، على التوازي، لا تقل “خصوصية” أو “قوة” عن علاقة بوتين ونتنياهو، ولم يتردد الرئيس بوتين مرة واحدة عن اللقاء مع محمود عباس حال تم إبداء الرغبة في ذلك.
ونذكر في هذا المقام ما صرحت به أخيراً المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، رداً على نائبة وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نولاند، التي وعدت “بيبي” نتنياهو بجائزة نوبل إذا “تمكن من إخراج بوتين من أوكرانيا”، حيث قالت زاخاروفا إنها تفضل منح جائزة نوبل “لتسوية الصراع في الشرق الأوسط وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة”، وهو ما يجسّد موقف الدولة الروسية الثابت والمبدئي بخصوص حق الشعب الفلسطيني.
مؤخراً، صرح نتنياهو بأنه “توصل إلى حل وسط يرضي بوتين، ولا يهدد المصالح الروسية، وفي نفس الوقت يضمن تحقيق المصالح الإسرائيلية”، وقال إنه “وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام خيارين: أولهما، أن تكون روسيا وإسرائيل في حالة صراع، وثانيهما، أن يجد البلدان لغة مشتركة تضمن تحقيق مصالحهما في الشرق الأوسط”. والحل، وفقا لنتنياهو، “ألا تتدخل إسرائيل بالتواجد الروسي في سوريا، مقابل ألا تتدخل روسيا في مصالح إسرائيل في المنطقة وتدعها وشأنها”.
لا أعتقد أن موقع أو وضع أو وزن نتنياهو أو إسرائيل السياسي يسمح لأي منهما أن يضع بوتين أو روسيا “أمام خيارات”، أحدها “الصراع”، فروسيا لا تربطها مع إسرائيل حدود مشتركة، والعلاقة بين الدولتين علاقة مشتبكة ومعقدة منذ قديم الأزل، وإذا كان الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة يشكلان الإطار الدبلوماسي والسياسي لهذه العلاقات، فإن الحديث بهذه “اللهجة” لا يليق، مهما بلغ الشطط والتطرف والزهو بنتنياهو مبلغه، بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة.
لهذا أتصور أن ما صرح به نتنياهو بشأن “الصراع بين إسرائيل وروسيا” يجنح إلى الخيال والتهيؤات ولا أقول الكذب والافتراءات.
كذلك أود توضيح أن ما دار في محضر الجلسة بين الرئيسين يؤكد على أن “الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، إلا أن صيغة التشكيك في الخلاف في حد ذاتها خاطئة، فلا يوجد إنسان عاقل لا يدرك أن الخلاف موجود، وأن موقف روسيا واضح بشأن قضية الشرق الأوسط وتأييد حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك، وقبل كل شيء، قضية القدس الشرقية، فيما تراوغ إسرائيل، وتناور وتتنصل وتساوم وتسوّف من أجل الهروب من التزاماتها أمام المجتمع الدولي لعقود.
أعرب الرئيس بوتين في هذه الجلسة أيضاً عن أمل روسيا أن تتوصل مع إسرائيل، ومن خلال اللقاءات المتعددة مع القيادة الإسرائيلية وكذلك مع القيادة الفلسطينية إلى بدء الحوار المباشر بين الطرفين من جديد، للاتفاق على خطوات عملية معينة للاعتراف المتبادل والإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
من جانبه، أعلن نتنياهو عن تفهمه للتواجد العسكري في سوريا، وأهمية القاعدة العسكرية البحرية، وأعرب عن استعداد بلاده لتقديم خدماتها للقوات الروسية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، إذا ما دعت الحاجة لذلك، وأكّد على أهمية تعزيزي التنسيق العسكري بين البلدين في المنطقة، خاصة وأن إيران، وفقا لنتنياهو، تسعى إلى التوسع لا سيما في سوريا ولبنان، وهو ما يهدد أمن ومصالح إسرائيل.
شدد بوتين خلال ذلك اللقاء على الفصل ما بين المصالح المشتركة وعدم الربط بينها على النحو الذي طرحه نتنياهو، لأن روسيا، وفقا لبوتين، تسعى لبناء علاقات متساوية مع جميع بلدان الشرق الأوسط بما في ذلك مع إيران وسوريا، ولها الحق أن تبني علاقاتها مع من تشاء. وأعاد بوتين التوتر الناشئ في المنطقة، وما يهدد الأمن في منطقة الشرق الأوسط هو عدم حل القضية المحورية في المنطقة، ألا وهي القضية الفلسطينية وقضية الجولان، وعلى الرغم من تفهم القلق الإسرائيلي، إلا أنه لا يمكن التخلص منه، والعيش بسلام واطمئنان دون حل هذه القضية حلاً شاملاً وعادلاً، فيما اتفق الرئيس الروسي مع نتنياهو على أن قناة الاتصال، وليس التنسيق، يجب أن تظل مفتوحة بين العسكريين لتفادي حدوث أخطاء (ولا داعي للتذكير بالخطأ غير المقصود طبعاً والذي أدى إلى إسقاط طائرتنا).
من ناحية أخرى، وفي إسرائيل أيضاً، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت بأنه لعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، تلبية لطلب الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي عقب بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وقال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعده بأنه “لن يأمر بتحييد الرئيس الأوكراني”.
يبدو أن رئيس الوزراء الأسبق قد اختلط عليه الأمر بين الوسائل التي تعتمد عليها روسيا في الحرب، وبين وسائل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أو الموساد. بالطبع، لم يصدر بوتين أمراً باغتيال زيلينسكي، ولا يدخل ذلك ضمن وسائل السياسة الروسية أو حتى الحرب. وأعتقد أن بوتين قد أعرب عن دهشته، وغالباً ما تساءل عن المصادر التي يمكن أن يكون بينيت، أو حتى زيلينسكي، قد استندا إليها لمثل هذه الإشاعة.
أنا على يقين أن الرئيس بوتين أكد لبينيت أن هدف العملية العسكرية الخاصة واضح ومعلن، ولا شأن لروسيا بالوضع الداخلي في أوكرانيا أو مصير الرئيس الذي يعود للأوكرانيين وحدهم.
انتهى اللقاء، وفقا لبينيت، بتحقيق “تنازلين كبيرين”، حيث يزعم بينيت أن بوتين أعرب عن استعداده لـ “التخلي عن فكرة اجتثثاث النازية ونزع السلاح الأوكراني” كأهداف للعملية الخاصة، مقابل “تخلي زيلينسكي عن فكرة انضمام أوكرانيا إلى (الناتو)”. لكن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب اتخذوا قرارا آخر بـ “تدمير” روسيا عوضا عن المفاوضات، وتخلى زيلينسكي عن وعوده، ومضت العملية العسكرية قدماً كما رأينا فيما بعد.
لقد وضعت الإدارة الأمريكية حليفتها وربيبتها إسرائيل في موقف حرج ومزعج للغاية، تماماً كما ضربت بمصالح حليفتها الألمانية عرض الحائط، وقامت بتدمير خط أنابيب “السيل الشمالي”، وفقا لما نشره مؤخرا الصحفي المرموق سيمور هيرش.
إننا نشهد كيف يتحول الوحش الأمريكي إلى درجة شراسة غير معقولة، بحيث يريد إيذاء روسيا بكل الوسائل، حتى من خلال التضحية بمصالح حلفائه المقربين، لتصبح المهمة الأساسية للولايات المتحدة، من خلال إسرائيل، ضرب إسفين بين روسيا وأوروبا.
رأيي الشخصي المتواضع، أن إسرائيل هي الأخرى مهتمة بالتصعيد في الخلافات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ولها دور في افتعال هذه الأزمة من أساسها، وتطمح أن تخرج القيادة الأوكرانية الحالية بشكل يثبت بقائها، حتى تصبح السمسار الرئيسي لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، بعد أن ساهمت كذلك، بواسطة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة بتفجير أنابيب “السيل الشمالي”.
إضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل ترفض مبدأ استعادة الأراضي إلى الوطن الأم، وسيبقى موقفها مؤيد لأوكرانيا واستعادة أوكرانيا لجميع الأراضي التي عادت إلى روسيا بما في ذلك القرم، وهو ما يؤكد عليه زيارة وزير خارجية إسرائيل الآن، حيث ترى إسرائيل في سابقة استعادة روسيا لأراضيها التاريخية دعما لاستعادة الفلسطينيين لأراضيهم.
كذلك تراهن إسرائيل الآن على أن الواقع الجديد الناشئ بعد انتهاء العملية العسكرية الخاصة واستعادة كامل الأراضي الروسية سيضطر الغرب والولايات المتحدة الأمريكية التعامل معه سيمنح إسرائيل وضعاً ووزناً خاصاً في أوكرانيا، يمكنهم الاستفادة منه من خلال مدّ الجسور من جديد بين الغرب وروسيا، لهذا لا يبدو من قبيل الغرابة أو المصادفة أن تكون الحكومة الأوكرانية الحالية في غالبيتها من أصول يهودية.