احسان الفقيه
يُعرّف المختصون بقضايا الإعلام والاتصال، الإعلان المضلل بأنه الإعلان الذي يقود المعلِن، عن قصد أو بدون قصد المعلن إليه، إلى الوقوع في الخطأ في حكمه، أو في تقديره الشخصي، فالإعلان الذين يحتوي على معلومات غير كافية يعتبر مُضلّلا، ليس بسبب ما يُفصح عنه، ولكن بسبب ما لم يُفصح عنه، والإعلان الذي يحتوي على معلومات صحيحة، ولكن الدليل المستخدم في إثباتها خاطئ، فهو يعتبر إعلانا مضللا.
هكذا ألفيت خطبة الشيخ السعودي عبد الرحمن السديس الأخيرة في الحرم المكي، كانت بمثابة إعلان مضلل، ظاهره التسامح، وباطنه الترويج لجريمة التطبيع، تلك هي زبدة الحكاية، غير أن الإجمال هنا لن يغني عن التفصيل.
في الوقت الذي يُنتظر فيه أن تركّز خطبة الحرم حول الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وموقف رئيس فرنسا المخزي حيال هذا الحدث، إذا بالسديس يتطرق إلى حسن التعامل في العلاقات الفردية والدولية مع غير المسلمين، مستحضرًا أمثلة لسماحة النبي مع اليهود، فقد «مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وعامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم، وأحسن إلى جاره اليهودي مما كان سببا في إسلامه». هذا الكلام حتما كلام صائب لا مرية في ذلك، وهذا هو ما جاء به الإسلام حقًا، ولكن إذا نظرنا إليه كجزء من سياق الأحداث الراهنة، فلا أقل من أن يوصف بأنه جريمة.
الأمة تمر بحالة من التطبيع مع الصهاينة غير مسبوقة، خاصة بعد أن قام محمد بن زايد – المثل الأعلى لولي العهد السعودي محمد بن سلمان – بإخراج التطبيع مع الصهاينة من السر إلى العلن، ومن الصبغة الودية إلى الصبغة الرسمية، وحوّله من اتجاه حكومي إلى اتجاه مجتمعي.
الإرهاصات والدلائل والإشارات على قرب إعلان السعودية التطبيع مع الصهاينة تزيد يومًا تلو يوم، فلم تعقّب الحكومة السعودية على إعلان التطبيع الإماراتي بما يعتبر مباركة، بل إنها فتحت مجالها الجوي لعبور الطائرات الإسرائيلية إلى الإمارات، وهو ما أشاد به نتنياهو، ويُعد ثمرة لاجتماع جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي ترامب، مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض. ترامب خلال مؤتمر صحافي عقد الجمعة الماضية في البيت الأبيض، يبشر بعلاقات تطبيع عربية إسرائيلية واسعة النطاق، فقال: «هناك دول أخرى في الشرق الأوسط تخوض اتصالات مكثفة معنا، وتسأل: متى سيأتي دورنا؟ متى سنوقع نحن الاتفاقات مع إسرائيل؟». أما كوشنر مهندس صفقة القرن، فقد صرح لإحدى المجلات الأمريكية نهايات الشهر المنصرم بأن اتفاقا على غرار ما جرى مع الإمارات، سوف يجري مع دول الخليج بما فيها السعودية، ووصفه بأنه أمر حتمي. ونتنياهو قبل إعلان التطبيع مع الإمارات بأيام، يصرح عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن السلام (التطبيع) يجب أن يصل ليس فقط إلى عمّان والقاهرة، بل إلى أبوظبي والرياض، واعتبر أن هذا لم يكن تنبؤا، بل نتاج سياسته التي قادها لسنوات، وقد أثمرت، وصدق الصهيوني بالفعل، لقد أثمرت.
وأما الكتاب والناشطون السعوديون المروجون للتطبيع، والعاملون على تسطيح القضية الفلسطينية، فحدِّث عن أفعالهم ولا حرج، ووصل تحدّيهم مشاعر الأمة إلى أن أحد المدونين السعوديين المعروفين بالتطبيع وهو محمد سعود، يغني لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أغنية إسرائيلية «بيبي بيبي يا حبيبي». والكاتب السعودي المعروف تركي الحمد يحطّ من شأن القضية الفلسطينية بما يعتبر بوابة للتطبيع، فيقول عن القضية الفلسطينية إنها لم تعد تهمّه، إذ أصبحت قضية من لا قضية له، على حد قوله. وعبد الحميد الحكيم مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات بجدة، يرى أن القدس رمز ديني لليهود، وأنها في قداسة مكة والمدينة المنورة عند المسلمين، وهو بذلك يستلب حق الفلسطينيين والأمة بأسرها في القدس.
فمن الواضح أن محمد بن سلمان يقوم بحملة ممنهجة على وسائل الإعلام، ومواقع التواصل، لتهيئة الرأي العام لإعلان التطبيع مع الصهاينة، وإن كنت لا أجزم بأنها ستكون في الفترة الحالية، لكن يجري العمل لها حتى تتسنى لها الفرصة، فربما تُؤخر الخطوة إلى حين إعلان جمْع من الدول العربية عن تطبيعها مع الإسرائيليين، وتزداد احتمالات إعلان التطبيع السعودي حال تولي محمد بن سلمان الحكم بشكل رسمي.
نعود إلى الشيخ السديس، الذي صرح من قبل بأن أمريكا تقود العالم للسلام، والذي لم تكن خطبته سوى ترجمة لحالة الإعداد السعودي للتطبيع مع الصهاينة، وهو بهذا التوجه يدلّس على الأمة، ويحدثنا عن حسن معاملة اليهود، وكأن مشكلتنا مع اليهود كأهل ملة، لا باعتبار أن جزءًا منهم صهاينة محتلون لفلسطين الحبيبة، وهذا من إلباس الباطل ثوب الحق، وأحد أساليب التغطية على حقيقة الصراع، وقطعًا من يعترض على كلامه فسيكون أمام تهمة مُعلّبة، أنه غير متسامح ولا يطبق تعاليم الإسلام السمحة في التعامل مع غير المسلمين.
السديس لم يذكر أن اليهود الذين أحسن النبي معاملتهم لم يكونوا معتدين أو محتلين، ولم يذكر أنه قام بردع اليهود الذين خانوا المعاهدات وتحالفوا مع مشركي قريش في حرب الدولة الإسلامية في المدينة، لم يحاربهم باعتبارهم من اليهود، لم يقاتلهم من أجل دينهم، بل قاتلهم من أجل غدرهم، وهذا ينطبق على كل المتحالفين مع العدو حتى إن كانوا مسلمين. لم يبين السديس للأمة أن معركتنا ليست مع اليهود المسالمين، وإنما معركتنا مع الذين قاموا منهم باحتلال فلسطين، وتشريد أهلها، وقتل واعتقال أبنائها ونهب ثروات البلاد. إننا أمام سباق محموم مع الزمن من جانب أطراف صفقة القرن، التي تتم فيها تصفية القضية الفلسطينية، وذلك حتما سوف يعبُر على جسر التطبيع مع البلدان العربية المؤثرة على الأقل، وفي سبيل ذلك يتم إغراق الشعوب في سيل من الأزمات الداخلية والتعرض لسياسات قمعية تكمم الأفواه.
أصبح الحكام في واد والشعوب في واد، ولو كان للشعوب تأثير ذو بال على التوجهات السياسية ما انفردت الحكومات بتلك القرارات البشعة والإجراءات المجهضة لقضايا الأمة الكبيرة. على الشعوب أن تحذر من الوقوع في ما يريد المطبعون أن تقع فيها، وهو التعامل مع الصهاينة المحتلين على اعتبار أنهم هم اليهود الذين لم ينهنا القرآن عن الإحسان إليهم ومسالمتهم والبر بهم، فالصائل المعتدي ليس له إلا العداء ولو كان مسلما، والمسالم له البر وحسن المعاملة ولو كان يهوديا، ولا عزاء للسديس وغيره من الأبواق المروجة لسياسات الأنظمة، ولو كانت خطبهم مبخرة بعود الغرقد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.