أحدث الأخبارشؤون آسيوية

رسائل بيونغ يانغ الصاروخية.. الإخلال بالتوازان ممنوع

مجلة تحليلات العصر الدولية / مرصد شبه الجزيرة - محمد منصور

حلّ شهر أيلول/سبتمبر الماضي حاملاً معه أربعَ تجارب صاروخية جديدة لبيونغ يانغ.
حلّ شهر أيلول/سبتمبر الماضي حاملاً معه أربعَ تجارب صاروخية جديدة لبيونغ يانغ.
أربع تجارب صاروخية نوعية، قامت بها كوريا الشمالية خلال الأسابيع الماضية، في حيّز زمني لم يتعدَّ شهراً واحداً، أثارت، من خلالها، الجدلَ مرةً أخرى بشأن واقع توجُّهاتها ومستقبلها، خلال المرحلة المقبلة، في ظلّ ضبابية العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، والأجواء التصالحية “ظاهرياً” مع الجارة الكورية الجنوبية. فما هي خلفيات هذه التجارب وتوقيتها؟

كانت التصريحات السابقة للزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، ترمي دوماً إلى التصعيد في مجال التسلُّح الصاروخي، فأعلن، أوائل العام الماضي، أن بلاده ستبدأ قريباً برنامجاً لتصنيع سلاح استراتيجي جديد. وأعلن حينها إنهاء تعليق التجارب الصاروخية، والذي كان مفعَّلاً منذ أوائل عام 2018. تبع ذلك تصاعدٌ في اللهجة العدائية من جانب بيونغ يانغ تجاه جارتها الكورية الجنوبية، بما في ذلك تفجير مكتب الارتباط المشترك بينهما، في حزيران/يونيو 2020.

نسخة جديدة من الصواريخ الباليستية القصيرة المدى
حلق الصاروخان المحدَّثان من هذا النوع مسافةَ 600 كيلومتر.
حلق الصاروخان المحدَّثان من هذا النوع مسافةَ 600 كيلومتر.
ترجمة كوريا الشمالية هذه التصريحات تمّ على نحو متأخّر، خلال العام الجاري، بحيث أجرت ما مجموعه خمسة اختبارات صاروخية نوعية، بدايتها كانت في الخامس والعشرين من آذار/مارس الماضي، حين أعلنت، بصورة مفاجئة، إطلاق صاروخين من النسخة المطوَّرة من صواريخ “كي أن – 23” الباليستية التكتيكية والقصيرة المدى، من موقعين منفصلين في مقاطعة “هاميغيونغ” عند الساحل الشرقي للبلاد، في اتجاه بحر اليابان.

هذا النوع من الصواريخ العاملة بالوَقود الصُّلب، كان تم الكشف عنه وعن نوعين آخرين مماثلين له، هما “كي أن ـ 24” و”كي أن ـ 25″، عام 2019. وحينها، أعلنت بيونغ يانغ أن زنة الرأس الحربي لهذا الصاروخ تبلغ نصف طن، ويصل مداه إلى نحو 600 كيلومتر، لكنّ اختبار النسخة المطوَّرة منه حمل عدة مؤشِّرات بالغة الأهمية. أوّلها أن هذا الاختبار يُعَدّ الأول الذي تنفذه بيونغ يانغ في ظل إدارة بايدن، وتستهدف من خلاله إرسال رسالتين إلى الإدارة الأميركية الجديدة: أُولاهما تختبر فيها ردود فعل هذه الإدارة، وتؤكد، من خلالها، أنها ستستمرّ في تطوير قدراتها الصاروخية. وثانيتهما مفادها أنها لن تقف مكتوفة اليدَين أمام تصاعد التعاون العسكري بين واشنطن وسيؤول.

المؤشِّر الثاني المهمَ في هذا الصدد، كمن في خصائص الصاروخين اللَّذين تم اختبارهما في هذه التجربة. ففي أيّار/مايو 2019، تم اختبار صاروخ “كي أن – 23″، وتمكّن من الوصول إلى مسافة 450 كيلومتراً، حاملاً رأساً حربياً بلغت زنته نصف طن. لكن، في تجربة آذار/مارس الماضي، حلّق الصاروخان المحدَّثان من هذا النوع، مَسافةَ 600 كيلومتر، برأس حربي تم تعديله، على نحو جذري، لتصبح زنته ما يقرب من 2500 كيلوغرام، وهو ما يجعل هذا النوع من الصواريخ ذا تأثير تدميري ضخم، مع توافر إمكان – يبدو ضئيلاً – تحميلَه برؤوس حربية غير تقليدية.

من النقاط اللافتة في هذا الصدد، أن القيادتين العسكريتين في اليابان وكوريا الجنوبية، أخطأتا، في البداية، في تحديد مدى النسخة الجديدة من هذا الصاروخ، فقالتا أولاً إن مداه لم يتجاوز، خلال التجربة الأخيرة، 450 كيلومتراً، لكنهما عادتا واعترفتا بأن المدى الذي حققه كِلا الصاروخين المستخدَمَين في هذه التجربة كان 600 كيلومتر. وأشارتا أيضاً إلى أن نمط تحليق الصاروخين في هذه التجربة كان معقَّداً، بحيث حلّقا على مسافة تبعد 60 كيلومتراً عن سطح البحر، ثم نفّذا، في المرحلة الأخيرة لتحليقهما، انزلاقاً جوياً إلى مستوى منخفض جداً فوق سطح البحر، وهو ما يصعّب مهمة رصد هذه الصواريخ واعتراضها. وهذا الأمر يمثّل تحدياً جدياً لكوريا الجنوبية، التي فضَّلت رصد المراحل الأخيرة لتحليق كِلا الصاروخين، علماً بأن سيؤول ستخصّص الجزء الأكبر من ميزانيتها الدفاعية، البالغة نحو 90 مليار دولار، من أجل تقوية دفاعاتها ضد الصواريخ.

كوريا الشمالية تدخل مجال الصواريخ الجوّالة
الصاروخ الجوّال الجديد يمتلك نظرياً القدرة على حمل رؤوس نووية.
الصاروخ الجوّال الجديد يمتلك نظرياً القدرة على حمل رؤوس نووية.
حلّ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، حاملاً معه أربعَ تجارب صاروخية جديدة لبيونغ يانغ، أُوْلاها تمّت خلال يومي الحادي عشر والثاني عشر، وفيها تمّ اختبار صاروخ جوّال يشكّل نقلة نوعية في تسليح بيونغ يانغ، بحيث تم إطلاقه من منصّة ذاتية الحركة، تحمل خمسة أنابيب للإطلاق. الصاروخ الجديد – الذي لم تتم تسميته حتى الآن – حلّق عبر ثمانية مسارات متعدِّدة الأشكال مدةَ ساعتين وست دقائق، قطع خلالها أكثر من 1500 كيلومتر، بسرعة تتراوح بين 440 و700 كيلومتر في الساعة. ويتشابه هذا الصاروخ، إلى حد كبير، مع الصاروخ الجوّال الروسي “كي أتش – 55”.

لفتت هذه التجربة بشدة انتباه كل من اليابان والولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط لأنها تمَّت قبل يوم واحد فقط من اجتماع كبار المفاوضين النوويين من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان في طوكيو، للبحث في مستقبل الوضع الكوري الشمالي، لكن أيضاً لأن كوريا الشمالية كانت تعمل منذ سنوات على تصنيع رؤوس حربية نووية مصغَّرة، لتحميلها في صواريخ تكتيكية ذات مدى كبير، وهو ما يتوافر، على نحو واضح، في الصاروخ الجوّال الجديد، الذي يمتلك نظرياً القدرة على حمل رؤوس نووية. جدير بالذكر أن العربة الخاصة بإطلاق هذا الصاروخ، ظهرت حاملة إياه خلال آخر عرضين عسكريين قام بهما الجيش الكوري الشمالي، في تشرين الأول/أكتوبر 2020، وكانون الثاني/يناير الماضي.

إذا تأكَّدَ سعي كوريا الشمالية لتطوير صواريخ جوّالة ذات رؤوس نووية، فإن امتلاكها هذه التِّقْنية سيوفّر لها قدرة عسكرية جديدة، تُضاف إلى صواريخها الباليستية، لأن الصواريخ الجوّالة تكون أسهل في النقل والإخفاء، وتتميّز بصعوبة كشف مكان إطلاقها، وإمكان استخدامها في مهاجمة كل أنواع الأهداف البرية والبحرية. علاوة على ذلك، فإن نجاح كوريا الشمالية في هذا الصدد، قد يتيح لها الفرصة في تطوير صواريخ جوّالة أخرى، يتم إطلاقها من منصات بحرية أو جوية.

التجربة الثالثة.. قطار صاروخي
خلال هذه التجربة حلّق كِلا الصاروخين مسافةً أكبر من مسافة تحليق صواريخ تجربة آذار/مارس الماضي.
خلال هذه التجربة حلّق كِلا الصاروخين مسافةً أكبر من مسافة تحليق صواريخ تجربة آذار/مارس الماضي.
التجربة الصاروخية الثالثة هذا العام، والثانية التي تمت خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، تمت في اليوم الخامس عشر، عبر إطلاق صاروخين باليستيَّين قصيري المدى، من نوع “كي أن – 23″، من على متن قطار تم تعديله خصيصاً ليصبح منصة إطلاق لهذا النوع من الصواريخ. عملية الإطلاق تمّت في منطقة يانغدوك، وسط البلاد، في اتجاه بحر اليابان. خلال هذه التجربة حلّق كِلا الصاروخين مسافةً أكبر من مسافة تحليق صواريخ تجربة آذار/مارس الماضي، بحيث وصلا إلى مسافة تقدَّر بنحو 800 كيلومتر. واللافت هنا أن وزارة الدفاع اليابانية قالت، عقب هذه التجربة، إن كِلا الصاروخين سقط في المياه الدولية، ثم تراجعت بعد ذلك، وقالت إنهما سقطا داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة.

الشيء اللافت للنظر في هذه التجربة، هو أنها ألقت الضوء على تشكيل الجيش الكوري الشمالي أفواجاً متحركة على قضبان من منصّات إطلاق الصواريخ، وهي ميزة تكتيكة مهمة بالنظر إلى قابليتها، على نحو أكبر، للبقاء من المنصات الثابتة، ويمكن من خلالها، في حالة الضرورة، الاستفادة من خطوط السكك الحديدية في البلاد، والبالغ طولها 7435 كيلومتراً، ناهيك بتميُّزها بالتمويه، نظراً إلى أنها تبدو ظاهرياً مثل قطارات الشحن المدنية، ويمكن تخزينها وإخفاؤها في الأنفاق الخاصة بهذه القطارات.

يُضاف إلى ما سبق إمكانُ الاستفادة من هذه المنصّات في إطلاق الصواريخ الباليستية الثقيلة والبعيدة المدى، مثل صاروخ “هواسونغ – 16″، والذي يُعَدّ الأكبر في الترسانة الكورية الشمالية، وخصوصاً أن هذا النوع من الصواريخ يتَّسم بوزنه الضخم، الأمر الذي يصعّب عمليات نقله وإطلاقه. لذا، سيكون استخدام السكك الحديدية، في هذا الشأن، أفضلَ وأكثر فعالية ومرونة.

صاروخ باليستي ذو مركبة انزلاقية
يمثّل المحاولة الأولى من جانب بيونغ يانغ لتطوير تِقْنية توصَّلت إليها سابقاً دول كبرى.
يمثّل المحاولة الأولى من جانب بيونغ يانغ لتطوير تِقْنية توصَّلت إليها سابقاً دول كبرى.
في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، أجرت كوريا الشمالية تجربة نوعية على صاروخ باليستي، يسمى “هواسونج – 8″، مزوّد برأس حربي انزلاقي تفوق سرعته سرعة الصوت، وتمّت عملية الإطلاق عبر منصة ذاتية الحركة، انطلاقاً من محافظة ريونجريم في مقاطعة جاغانغ، قبيل ساعات من إلقاء سفير كوريا الشمالية لدى الأمم المتحدة خطابَ بلاده في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. حلّق هذا الصاروخ مسافةَ أقل من 200 كيلومتر، على ارتفاع يتراوح بين 30 و60 كيلومتراً.

ربّما لم يكن مدى هذا الصاروخ، أو ارتفاع تحليقه، بمنزلة إضافة نوعية إلى القدرات الكورية الشمالية، لكنّ المهم، في ما يتعلق به، أنه يمثّل المحاولة الأولى من جانب بيونغ يانغ من أجل تطوير تِقْنية توصَّلت إليها سابقاً دول كبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، وهي تِقْنية “المركبات الانزلاقية”، وهي رؤوس حربية منزلقة تحلّق بسرعة الصوت نحو هدفها، بعد أن تنفصل عن الصاروخ الحامل لها خارج الغلاف الجوي للأرض، الأمر الذي يجعل من الصعب على شبكات الدفاع الجوي تتبُّع هذه الصواريخ ورصدها واعتراضها، نظراً إلى ضِيق الوقت المتاح أمام هذه الشبكات لرصد هذه المركبات، لأنها تأتي من خارج الغلاف الجوي بسرعات عالية.

بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الاختبار ناجحاً أم لا، فهو يبقى دليلاً آخر على محاولات كوريا الشمالية المستمرة من أجل تطوير قدراتها الباليستية، لتكون قادرة على هزيمة الدفاعات الجوية للدول المجاورة لها، وذلك كجزء من سباق التسلح المتزايد بين شطري شبه الجزيرة الكورية، وخصوصاً أن هذه التجربة تزامنت مع إعلان وكالة التطوير الدفاعي في كوريا الجنوبية اختبارَها صاروخاً باليستياً جديداً، وقرب تنفيذها تجربة على صواريخ أخرى، بينها صاروخ يتم إطلاقه من على متن الغواصات، وصاروخ جوّال أسرع من الصوت ومضادّ للسفن.

تُضاف إلى هذه التجارب، السالف ذكرها، تجربةٌ تمَّت مؤخَّراً، وتحديداً في الأول من الشهر الجاري، جرى فيها اختبار صاروخ جديد للدفاع الجوي لم تُكشَف خصائصُه.

الواضح أن بيونغ يانغ تسير حثيثاً في تنفيذ خطة تطوير الأسلحة الاستراتيجية، والتي تحدَّث عنها الزعيم الكوري الشمالي خلال المؤتمر العام للحزب الحاكم أوائل العام الجاري، والتي تشمل أيضاً تطوير قمر اصطناعي عسكري، وغواصات نووية، وطائرات استطلاع من دون طيار، وصواريخ باليستية عابرة للقارات تعمل بالوَقود الصُّلب. وتستمرّ هذه الجهود، على الرَّغم مما بدا أنه “أجواء تصالحية” تسود العلاقة بين الجارتين الشمالية والجنوبية، بعد إعادة تنشيط الخطوط الساخنة بينهما منتصفَ العام الجاري.

على ما يبدو، فإن التدريبات العسكرية المشتركة بين سيؤول والولايات المتحدة الأميركية الشهر الماضي، أرسلت برسائل سلبية إلى بيونغ يانغ، التي أصدرت بياناً في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، يحذّر كوريا الجنوبية من محاولة الإخلال بتوازن القوى العسكرية في شبه الجزيرة الكورية، وأعقب ذلك حديث الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، أواخر الشهر الماضي، بشأن استمرار بلاده في تطوير أنظمة تسليحية جديدة، تضمن توازن القوى وتحفظه. الأكيد أن التجارب الأخيرة لكوريا الشمالية تمثّل تهديداً جدياً لجهود كوريا الجنوبية في تقليص الفجوة بينها وبين جارتها، وخصوصاً في ما يتعلّق بالصواريخ الباليستية، وهو ما يعني عملياً أن كِلا البلدين شَرَعَ في سباق إلى التسلح الصاروخي، قد يشمل أنواعاً أخرى من الأسلحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى