عندما انطلقت تظاهرات تشرين ٢٠١٩، كان التصور العام أن الوضع الشيعي قد انقلبت موازينه، وأن الغضب المتطاير من حشود المتظاهرين هو إعلان عملي عن زوال قوة الشيعة السياسية.
وكان لهذا التصور ما يبرره، فقد كانت تظاهرات تشرين أقوى مشروع أمريكي نفّذته السفارة وقنصلياتها بعد إحتلال العراق، وقد خططت له ليكون البديل التدميري لمشروع داعش الذي قدّمت له مختلف أشكال الدعم، لكنه انهار بعد فتوى الجهاد الكفائي للمرجع الأعلى السيد السيستاني.
كان صوت التظاهرات عالياً بحيث أنه خدع الكثير من القيادات والسياسيين والإعلاميين في البداية، وكان التصور السائد أنها تظاهرات مطلبية، فجّرها الغضب الشعبي نتيجة التدهور العام في البلاد. لكن هويتها وأهدافها تكشفت بعد أن اقتصرت على المناطق الشيعية فقط، وبعد أن ظهر ارتباط قادتها ومحركيها بالسفارة الأمريكية وقنصلياتها.
بعد النتائج السريعة التي حققتها أمريكا في إثارة الفوضى في مناطق الوسط والجنوب، وبعد أن تأكد لها أن شيعة الجوكر يتفانون في تدمير مدنهم، أقدمت على الخطوة الحاسمة، وذلك باغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس. وقد كان التوقيت دقيقاً في التنفيذ، فلو تمت عملية الاغتيال قبل التظاهرات لكانت بداية حرب مدمرة مفتوحة بين إيران والمحور الأمريكي كله. فالفريق قاسم سليماني كان يمثّل في ساحة الصراع الإقليمي والدولي، الأمن القومي الإيراني، وطليعة خط المقاومة، وكانت أمريكا تعرف أن استهدافه يعني ساعة الصفر في حرب تحرق المنطقة بنفطها ومناطق النفوذ الأمريكي فيها والحكومات القائمة عليها.
لم تكن عملية الاغتيال نتيجة تخطيط أسبوع أو شهر، إنما القرار تم اتخاذه منذ أكثر من سنة، وربما قبل سنوات، لكن تنفيذه كان يحتاج الى جو مساعد.. جو تكون فيه إيران غير قادرة على الرد، وإن فعلت فبشكل محدود ضمن حدود رد الاعتبار لا أكثر. وهذا ما كان قائماً في تلك الأيام، فمع الجو المضطرب نتيجة التظاهرات لم يكن بمقدور إيران الرد بشكل يناسب الخسارة التي تعرضت لها. كما كان الإعداد للعملية يحتاج الى شنّ حملة تشويه مركّزة للشهيدين وللحشد بقتل المتظاهرين، وقد بدا واضحاً ان عملية التشويه كانت مبرمجة بشكل دقيق.
لكن المظهر المفاجئ الذي غطى الساحة، هو ردة الفعل الشيعية على جريمة الإغتيال، فقد حدث طوفان التشييع بشكل لا يمكن تصويره ووصفه من حيث العظمة والاندفاع والصدق، وكان سيل الملايين الذي غرقت به مدن الكاظمية وكربلاء والنجف وغيرها، يمثل الموقف الشيعي الحقيقي، وأن هذه الجماهير الحاشدة هي الكيان الشيعي الذي يصنع الموقف ويغيّر اتجاه الحدث في اللحظة الحاسمة.
كانت مراسيم التشييع تصويتاً مباشراً على الحشد الشعبي بخطه وتوجهاته ودوره، وقد أكّد عشرات الملايين الذين ساروا في الشوارع خلف نعوش الشهداء بكل خطوة وبكل هتاف أنهم شيعة الحشد.
إن النقطة المهمة في هذا المجال، أن شيعة الجوكر بارعون في الفعل الإعلامي ولهم حضورهم المكثف على صفحات التواصل الاجتماعي، بينما لا يهتم شيعة الحشد بهذا الجانب بالشكل المطلوب.
ما نخلص اليه في تجربة التظاهرات، أن الشيعة في الموقف المصيري، يتنبهون بسرعة الى الخطر، ويتخذون القرار السريع بتدارك الهفوة، ويتحولون الى قوة جبّارة تكتسح الطريق. هذا ما يجب أن نعيشه في تقييم الوضع الميداني، فشيعة الحشد هم أصحاب القرار وإن علا صراخ حشد الجوكر.