وأخيراً هوى طائر الفينيق، بعد صراعٍ دامٍ مع نسر مغرور استمر لساعات طوال، وتميز بأداء جيد لكل منهما، مع ملاحظة عدم تكافؤ الصراع.
كانت المعركة حامية، شهدت مناورات وحركات دقيقة لكل من طرفيها ،فالنسر كان صاحب الغلبة منذ البداية، لكن طائر الفينيق، أبلى بلاء حسناً، أرهق النسر إذ كان يزعق في الجو كالزمجرة، حين يهوي على طائر الفينيق، فيوهمه بأنه أصبح بين مخالبه، ثم يقوم بحركة تخرج النسر عن طوره، فيأخذ بالتخبط في الجو.
لم يكن النسر وحده بطل المعركة ضد طائر الفينيق، لفصفصة عظامه، انتقاماً منه بسبب ثأر قديم.
وذات احتدام، تمكن النسر من طائر الفينيق، ونال منه بأن جرحه فسالت نقطة دم واحدة منه، وما أن وصلت الأرض، حتى هبت نيران ليست كنيران الحطب المشرّب بالكاز، ونتج دخان ليس كالدخان المنبثق عن إشتعال الحطب، وانطلق عمود النار من الأرض ليصل عنان السماء، فيما انتشر الدخان الكثيف ليحجب النظر، ويمنع اشعة الشمس من مواصلة انبعاثها.
ساد اللـون البنفسجي جهات الدنيا الأربع، وفي تلك الأثنـاء، هوى طائر الفينيق، في جمرة النار، وانقشع الدخان، وخمـدت النيـران فيما أخذ النسر يزعق بصوت مذعور في الجو، ويطير تارة بشكل مرتفع، وتارة أخرى يهوي إلى الأرض، لكنه يعاود الارتفاع قبل أن يلامسها.
التفت الغيلان والأفاعي والجرذان البيضاء حول بؤرة النار الخامـدة، حالها كحال وحوش تتضور جوعاً اجتمعت على جيفة متحللة متعفنة، وكانت تصدر أصواتاً ملؤها التشفي بما حدث مع طائر الفينيق، الذي احترق في النار وأصبح رماداً تذروه الرياح، وبما جرى مع النسر الذي فشل في اصطياد طائر الفينيق، وأصبح كمن فقد عقلـه، يتخبط في الجو مذعوراً.
قالت إحدى الأفاعي: كنت أتمنى أن ألتهم رأسه الذي يفكر فيه، كـي أريحه من عقله، فقد تعب وأتعبنا معه، وأشعرنا بضعفنا وهواننا، أمام صموده وجبروته.
وقال أحد الغيلان: كم كنت أتمنى التهامه بالكامل، لأريح الدنيـا منـه، فقد كشف المستور عندنا، وأصبحنا لا نساوي شيئاً أمامه.
وقـال جرذ به جرب وتتخذ البراغيث من جلده أوكاراً لها : كنت أتمنى أن أستل عينيه، حتى يصبح أعمى، يعجز عن الطيران، وكي لا يتمكن من جوب آفاق الجو، ويتساوى معنا في الحياة الأرضية.
وفيما هم يعلنون أمنياتهم ويقدمون أسباب عدائهم لطائر الفينيق ، هبط بينهم النسر مغشياً عليه، لكنه استعاد وعيه بعد هنيهة وقال: أكـاد أجن، إن لم أكن قد جننت بالفعل لقد أرهقني هذا الطائر وأشعرني بالعجز أمامه.
ردت عليه الأفاعي والغيلان والجرذان، وفرائصها ترتعد خوفاً منه، ألم تتمكن منه وتقتله، فلم هذا الشعور بالنقص؟ لقد احترق بالنيران وأصبح رماداً والآن ها هي السماء ملك لك وحدك، ولن ينازعك فيها أحد بعد اليوم.
زعق النسر زعقة، جعلت كل من حوله، يرتد إلى الخلف من شدة الهلع والخوف، وقال: كنت أتمنى التهامه وطحن عظامه، لأنه تجرأ على مشاركتي قمم الجبال وأقدم على منازعتي.
وبينما كان النسر يضرب بجناحيه الأرض، من شدة القهر، والغيلان والأفاعي والجرذان، تأكل نفسها لضعفها وهوانها، انبعث ضوء ساطع من بؤرة النيران الخامدة وكأنه البرق وسمع صوت زلزلة كأنه الرعد، فانقلب النسر والغيلان والجرذان على ظهورها فيما دارت الأفاعي حول نفسها على شكل كعكة أخفت تحتها رؤوسها، من هول ما حدث .
وما هي إلا دقائق حتى انبعث طائر الفينيق من جديد، وطار مرتفعاً إلى عنان السماء، ثم هوى إلى الأرض، حيث أعداؤه المتدثرون بهلعهم وخوفهم، ليبدأ النزال مع النسر من جديد، وسط هلـع وخوف وحيرة الأفاعي والغيلان والجرذان.