عن النظام العالمي ونظرية التراجع الأميركي
مجلة تحليلات العصر الدولية - د.طارق عبود / مجلة يمن ثبات
شكّل تراجع القوة الأمريكية، و«القلق على مستقبل المكانة الأميركية في بنية النظام الدولي»، هاجسًا أرّق عقول النخبة الأميركية من المفكرين الاستراتيجيين منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. ولأنّ سقوط الاتحاد السوفيتي عزّز من نزعة الزهو الأميركي كما تبدت في «نهاية التاريخ لـ «فوكوياما»، إلا أنّ المفكّر بول كينيدي كان في طليعة من كشف في كتابه «صعود القوى العظمى وهبوطها» عن أنّ وصول الولايات المتحدة إلى نقطة «التمدد الزائد» للإمبراطورية، هو سبب الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية البنيوية التي تفاقمت في الولايات المتحدة في العقود الماضية؛ لتبدأ بعدها رحلة التراجع.
ثمة نقاش محتدم اليوم عن مآلات الإمبراطورية الأميركية، ونفوذها وقوّتها، وهل ما زالت هي القوة المهيمنة على النظام الدولي، أم أنها في طور التراجع، وبدأت بفقدان هيبتها وكلمتها، وشرعت معالم شيخوختها بالظهور؟
تتوزع النظريات والآراء حول نفوذ الولايات المتحدة وحضورها على مروحة واسعة من الآراء، ولكنّ اتجاهين يسيطران على النقاش، والكثير من الآراء- أصدقاء أميركا وأعداؤها- تنزلق نحو الذاتية والتمني على حساب التحليل الواقعي الموضوعي. فأين أصبحت الإمبراطورية الأميركية بعد مرحلتي أوباما ودونالد ترامب، وعودة جو بايدن إلى البيت الأبيض؟ وهل هناك تراجع فعلي، أم هي مجرد تمنيات؟
قبل الشروع في تشريح آراء المنظرّين لدوام التفوق الأميركي، لا بدّ من التعريج على ما أورده جورج فريدمان في كتابه «العشرية القادمة» الصادر في العام 2011م، إذ قال: إنّ الولايات المتحدة وجدت نفسها تصارع في عالمٍ معقّد بسبب «التوسع الزائد» غير المخطط له؛ حيث امتدت مصالحها وقواتها في معظم أرجاء العالم، فتبدّت الأزمة عندها في كيفية التوفيق بين جانبين. فهي أرادت الحفاظ على البعد القيمي في علاقاتها الدولية، من خلال المنظور المثالي المتجسّد في «القيم والمبادئ» وهو الأنسب لنظام الجمهورية، وبين المنظور الواقعي المتمثّل في «القوة والمصالح» وهو الآلية الأنسب للإمبراطورية.
الولايات المتحدة ما تزال القوة العظمى:
يعتمد المدافعون عن استمرار التفوق الأميركي- وفي مقدمتهم «جوزيف ناي»- على سردية عن عدم وجود اختلاف بين الباحثين على أن الولايات المتحدة ما زالت تتصدر النظام الدولي، ويتكئ في ذلك على أنها ما زالت الطرف الأقوى والأكبر في امتلاك عناصر القوتين الناعمة والخشنة؛ إذ إنّ لديها أكبر اقتصاد عالمي، وأكبر قوة عسكرية في العالم، وميزانيتها العسكرية تساوي تقريبًا مجموع أكبر عشر ميزانيات عسكرية للدول التي تليها في الترتيب، وعملتها هي الدولار، وهي العملة العالمية التي تستحوذ على نحو (62) في المائة من المبالغ والاحتياطات في البنوك المركزية في العالم، وأنّ الجامعات الأميركية تشغل نحو نصف قائمة الجامعات المائة الأفضل في العالم. كما أن أكبر الشركات العالمية هي شركات أمريكية، مع التنبّه إلى الهيمنة الأميركية على شركات البرمجة الإلكترونية والتواصل الاجتماعي (مايكروسوفت، آبل، غوغل، فايسبوك، إنستغرام، تويتر، واتساب…) وأن هناك (46) ستةً وأربعين رئيس حكومة في العالم هم من خريجي الجامعات الأميركية، وهناك حوالي (750) ألف طالب أجنبي يأتون للولايات المتحدة كل عام.
ويورد «جوزيف ناي» في كتابه «مستقبل القوة»أن القوة الأقرب لمنافسة أميركا، وهي الصين، تعاني من مشكلات عديدة تمنعها من التفوق على الولايات المتحدة، وهي: مشكلات ديمغرافية (بسبب سياسة الطفل الواحد) وفقر الريف. وهناك احتمالات لتلكؤ النمو الاقتصادي في فترات قريبة، حتى لو تجاوزت الصين الناتج الأميركي، فإنّ تركيب الاقتصاد الأميركي مختلف من حيث نوعيته، ويفتقد النظام السياسي الصيني الشرعية في منظور المجتمع المحلي والمجتمع الدولي.وتتفوّق الولايات المتحدة على الصين في السينما والجامعات والبحث العلمي.. إلخ. وإنّ معدل دخل الفرد سيبقى لصالح أميركا حتى بعد العام 2050م، وإنّ النفوذ الصيني الدولي يُعدُّ محدودًا، أي: أنّ قدرتها على توجيه الأحداث الاستراتيجية الدولية ما زال قاصرًا قياسًا بالولايات المتحدة. وأخيرًا سيكون الإنفاق الدفاعي الصيني في عام 2025م مساويًا لـ 25% من الإنفاق الدفاعي الأميركي الحالي.
هل الصين مترددة في القيادة؟
يسهم مستشار الأمن القومي الأميركي السابق والأكاديمي الوازن زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «رؤية استراتيجية»، في هذا الجدل الاستراتيجي، حول بنية النظام الدولي القادم، والقوى المركزية فيه، وحول دور الولايات المتحدة في عالم يتغيّر ولو ببطء. وذلك من خلال ملامح ليست خفيّة للعالم عبر مدى زمني قصير ومتوسط (2025 وما بعدها).
فيقول: إنّ الولايات المتحدة لن تتمتع بالمكانة الدولية نفسها، ولن تبقى متفردة بالزعامة خلال الفترة المشار إليها؛ نظرًا إلى التوزع الجيوسياسي الذي يصيب مؤشرات القوة المختلفة. فإذا كان المدى الجغرافي للغرب قد تقلّص (بفعل انكماش الظاهرة الاستعمارية)، فإن تمدّده الجيوسياسي والاقتصادي تواصل. وما يؤشر على توزع القوة، هو تحويل مجموعة الثمانية إلى مجموعة العشرين، أي: إن المشاركين في صنع الاتجاهات الكبرى تزايدوا، وهو ما يجعل القدرة على الوصول إلى قرارات دولية أكثر تعقيدًا. إضافة إلى أنّ إعادة توزيع القوة يسير بوتيرة أسرع مما عرفته النظم الدولية التاريخية، فخلال القرن الممتد من 1910م إلى 2010م تغيّر توزيع القوى خمس مرات، وسيؤدي ذلك مستقبلًا إلى إعادة النظر في إجراءات التصويت في المنظمات الدولية مثل: مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد.
وإذا كانت الصين هي القوة الأكثر سرعةً في الصعود، فإنها لن تتمكن من تحمل أعباء القيادة – بل هي ليست متعجلة لذلك- وهو ما سيجعل بنية النظام الدولي وتفاعلاته أقرب إلى النمط «الفوضوي» الذي يتعزز بالتنافس في آسيا بين القوى المركزية، وعلاقات العداء بينها (الهند والصين وباكستان) من ناحية و(اليابان والصين وكوريا) من ناحية أخرى، إضافة الى عدم تماسك الاتحاد الأوروبي (خروج بريطانيا منه مؤخرًا) وتخليه عن أعباء الحفاظ على «موقع الغرب» في النظام الدولي على كاهل الولايات المتحدة وحدها.
ولكنّ «ناي» نفسه يعترف في النهاية، أنّ الصين لن تتساوى في مجمل القوة مع الولايات المتحدة؛ لكنها قد تكون تحدّيًا مهمًّا لها. ويشير إلى أنّ معضلة الولايات المتحدة هي في مشكلاتها «الداخلية» الثقافية والاقتصادية والمؤسسية؛ فهناك ضعف في المستوى التعليمي المدرسي، ولا تزال الفروق الطبقية طبقًا للمقياس الجيني عالية، إضافة إلى فقر الأطفال، وتراجع معدلات الادخار، ومشكلة احتمال إغلاق باب الهجرة.
ويختم «ناي» قائلًا: إنّ أزمة أميركا لا تكمن في تزايد مظاهر التراجع لديها، وإنما في قدرة القوى الدولية الصاعدة- وخصوصاً الصين- على تقليص الفجوة مع أميركا. والتقدم بخطى ثابتة نحو «نقطة حرجة» مستقبلية يمكن أن يتجاوزوا فيها المنافس الأميركي. وهذا التجاوز قد يأخذ شكلاً اقتصاديًّا، وشكلًا علميًّا وتكنولوجيًّا، قد يتبعه لاحقًا الشكل العسكري.
أميركا تتراجع:
يقول جان جاك روسو: «إذا كانت إسبارطة وروما قد زالتا، فأيّ دولة يمكن أن تأمل الاستمرار إلى الأبد؟». وفي حوار مع الرئيس الصيني، يقول زبيغنيوبريجنسكي: إنّ أميركا تتراجع وأنتم تتقدمون، فيردّ الرئيس الصيني: «أرجوكم لا تتراجعوا بسرعة»!
ويقول الاستراتيجي روبرت كابلان: «ربما توجد من الأسباب ما يستدعي القول: إنّ أميركا ولدت لتموت أكثر من أي أمة أخرى».
عندما نتكلم على نظرية التراجع، لا بدّ لنا من الاستشهاد بدراسة للدكتور وليد عبد الحي استعرض فيها آراء ما يعرف بتيار «التراجع الأمريكي» على مدى العقود الأربعة الماضية، وهو تيار يرى: أن الولايات المتحدة تسير في مسار متراجع هابط. ولمعرفة تعقيد الواقع الدولي اليوم، والمنافسة الحامية بين الولايات المتحدة والصين، وضع الدكتور عبد الحي جدولًا من عشرين مؤشرًا استراتيجيًّا يتعلق بقياس القوة، معتمدًا على دراسة أكاديمية أميركية لكل من الولايات المتحدة والصين خلال السنتين 2018م-2019م، وأحيانًا الأخذ بمعدلات المؤشر لسنة 2020م.
وقد كشف الجدول أن الولايات المتحدة تتفوق في عشرة مؤشرات، بينما تتفوق الصين في المؤشرات العشرة الأخرى، وأن مجموع نقاط التفوق الأمريكي هي (19) نقطة بينما مجموع نقاط التفوق الصيني هي (16) نقطة، وأن توزيع نسبة القوة لكل من الطرفين يشير إلى أن نصيب القوة الأمريكية هو (54.3%)بينما نصيب القوة الصينية هو( 45.7%.) أي: أنّ الولايات المتحدة ما زالت في المقدمة.
ومثّلت دراسة مجلس المخابرات الوطني الأميركي (NIC) أحد التنبؤات المعزّزة لفكرة تحوّل النظام الدولي إلى التعددية القطبية، حيث تتحدث عن ظهور قوى كبرى جديدة، ومواصلة العولمة الاقتصادية، وانتقال الثروة من الغرب إلى الشرق، وتنامي كيانات ما دون الدولة، وما فوقها، كما سيتجه العالم نحو قدر أقل من الفجوة بين الأقاليم والدول في النظام الدولي القادم، والذي حدده التقرير بالعام 2025م.
بدوره يقارب رئيس «مجلس العلاقات الخارجية»، «ريتشارد هاس» ما حصل في الانتخابات الأخيرة، وما بعدها في مقالة على موقع «فورين أفيرز» منذ أسبوعين، ساخرًا من المستقبل الأميركي، بالقول: إن «الانتقال السلمي للسلطة، والاستثنائية الأميركية، وإيماننا بأننا نموذج مدينة مضيئة قائمة على تلّة، كثير علينا»، متحدّثاً عن سقوط النموذج الذي شغل العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مشكلة الرأسمالية، ونهاية العصر الأميركي:
تحدّد الأستاذة بجامعة هارفرد «ريبيكا هندرسون» في كتابها «إعادة تشكيل الرأسمالية في عالم مشتعل» بعدد من القضايا، منها:
1 – اتساع حدّة اللامساواة بالثروات بين سكان الكوكب؛ لأنّ قرابة الخمسين شخصًا في العالم يمتلكون أكثر من أربعة مليارات إنسان على مستوى الكرة الأرضية.
2 – الإسهام في التغّيرات المناخية، والتي تسببت في زيادة استخدام الوقود الأحفوري الرخيص، وزيادة حجم الاستثمارات التي تراعي البيئة.
3 – تراجع دور الحكومة (الدولة) بالتزامن مع تطبيق اقتصاديات السوق الحرة، أو اقتصاد السوق، وهو ما تسبّب في تخلي الشركات عن مسؤوليتها في تحقيق الصالح العام، وتهرّب مسؤولي الشركات من مسؤولياتهم، ومن دفع الضرائب؛ ما جعل المواطنين يفقدون قدرتهم على حماية حقوقهم، وهو ما جعل الثقة مفقودةً في السياسات الحكومية.
ويرى ريتشارد هاس أنّ «من الحكمة أن تقوم إدارة بايدن بتعليق خططها المعلَنة لعقد اجتماع للديموقراطيات، إلى أن يصبح منزل الولايات المتحدة في وضع أفضل».
يضيف هاس: إن عالم ما بعد أميركا لن يكون محدّدًا بأولوية الولايات المتحدة. عالمٌ بدأت ملامحه تظهر في وقتٍ أقرب ممّا كان متوقعًا؛ ليس بسبب الصعود الحتمي للآخرين، ولكن بسبب ما فعلته الولايات المتحدة لنفسها. وإنّ كلّ ما فعلته إدارة ترامب في السياسة الخارجية سيؤدّي إلى تراجع ملحوظ في نفوذ الولايات المتحدة لمصلحة الصين وإيران وروسيا».
ننتقل إلى تشارلز كابشان، الباحث المتخصّص في الجغرافيا السياسيّة، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، وعضو لجنة العلاقات الخارجية، الذي يقول في كتابه المعنون «نهاية العصر الأميركي»، حتمية سقوط كل الإمبراطوريات الكبرى، حيث إنه يستحيل بقاء أي إمبراطورية على قمّة الهرم للأبد. ولقد كانت روما إمبراطورية عظمى، وقد سيطرت على مساحة جغرافية شاسعة «امتدّت من ثلاثمائة الى أربعمائة عام، وهي حقبة تحسب طويلة مقارنة بإمبراطوريات أخرى اختفت بمدة أقلّ بكثير» أما أحد الأسباب التي تجعل من لحظة تربّع أميركا على قمّة الهرم العالمي قصيرة، فهو يكمن في أن التاريخ يسير اليوم بسرعة أكبر بكثير من السابق.
ما المخرج الاستراتيجي للولايات المتحدة؟
بعد هذا التوصيف للملامح الكبرى، يجتهد بريجنسكي في رسم استراتيجية بلاده لتحقيق مصالحها للمحافظة على مكانتها. إنّ النظر إلى الداخل، وعدم الانغماس في مشكلات خارجية سيكونان المدخل لحفاظ أميركا على مكانتها، إضافةً إلى تعزيز علاقات التعاون مع الآخرين، وإذا كانت «أوراسيا» هي المنطقة الأكثر أهمية، وكانت العلاقة بين الشرق والغرب حاليًّا هي إما التعاون المتبادل أو التدمير المشترك، فلا بدّ من توازن جيوسياسي في «أوراسيا» من خلال ما يلي:
أ – عدم التورط في حرب ممتدة في أفغانستان.
ب – لا حل عسكريًّا للمشاكل مع إيران، لا أحاديًّا ولا بالتعاون مع إسرائيل، ولا بد من إشراك إيران في التسويات الإقليمية.
ج – أن عدم تسوية النزاع شرق الأوسطي سيجعل «المصالح الأميركية تعاني كثيرًا، وسيصبح مصير إسرائيل في بيئة دولية معادية كهذه موضع شك في آخر المطاف».
د- على الولايات المتحدة التسليم بتفوق جيوسياسي للصين في آسيا، مع العمل الأميركي من خلال الشركاء الآسيويين لتطوير العلاقة البنّاءة مع الصين.
هـ – تعزيز العلاقة مع الهند، من دون الوصول بها إلى مرحلة استفزاز الصين.
خاتمة:
سيبقى هذا النقاش مشتعلًا بين الفريقين إلى أمد غير قصير، بانتظار حدث مبدّل كبير يشكّل انزياحًا في واقع النظام الدولي الجديد، وقد يكون ما حصل في ولاية ترامب، وفي حادثة اقتحام الكابيتول هيل، إحدى المؤشرات الواضحة للمشكلة الأميركية الداخلية التي قد تتسبب في تراجع القوة الأميركية وتقدّم غيرها، ما يضعنا أمام نظام دولي متعدد الأقطاب، ولكن شكله وماهيته ما زالا غامضين إلى حين الوصول إلى اللحظة التاريخية الحاسمة، ولكن من المؤكّد أنّ أميركا التي عرفناها منذ سقوط جدار برلين لن تبقى كما كانت منذ ثلاثة عقود.