بقلم: د. السيد محمد الغريفي
تختلف واقعة الطف عن جميع الوقائع والمعارك والثورات السابقة واللاحقة عليها, حيث تميزت بخصائص عديدة أهمها الخلود والبقاء.
تراها حية في القلوب والضمائر بمعانيها السامية فإنها رمز للشهادة والتضحية, وهدف للإصلاح والتغيير, وشعار ضد الكفر والطاغوت, ومثال للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وقدوة للصبر والمظلومية, ونهج للجهاد والتحدي, فهي متجددة في القلوب والعقول كل آن.
بخلاف باقي الوقائع والمعارك حيث تنتهي بأنتهاء الواقعة فتكون عبر من التاريخ وبقايا من الذكريات وحبر على ورق.
والسر في ذلك هو أن كل معركة مرهونة بأهدافها فإذما تتحقق هذه الأهداف أو تفشل تحسم المعركة في تلك المرحلة من الزمن على تلك البقعة من الأرض.
تراهم يتنازعون على امتلاك قطعة من الأرض أو عين من الماء أو أخذ ثأر أو إسقاط حكم أو لدفع سلب ونهب أو لهتك عرض وما شابه ذلك.
بل حتى الوقائع الإسلامية كانت من أجل الفتوحات أو رد كيد الأعداء أو دفاع عن بيضة الإسلام وهكذا فإنها تنتهي بأنتهائها.
أما واقعة الطف فلم تنتهي بأنتهائها لبقاء أهدافها التي قامت عليها المتمثلة بقول الإمام الحسين(ع):(وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(ص))، فطلب الإصلاح باقي وخالد.
فكل مخلصاً في الحياة يشعر أن الإمام الحسين(ع) قائده في الحياة ضد الكفر والطغيان والظلم والاضطهاد والفساد والرذيلة.
كما أن كل ظالم طاغي يشعر أن الحسين(ع) هو عدوه الأول هو الذي سيهز أركان عرشه ويقضي عليه يوماً وينهيه من الوجود.
إذاً فهي خالدة مستمرة لم تنتهي بعد ولم تحسم المعركة, فهي باقية ما بقي في الوجود مظلوم وظالم, أو حق وباطل, أو خير وشر, أو إسلام وكفر.
ترانا نقوم ونقعد وننام ونأكل ونشرب والمعركة مازالت مستمرة والإمام الحسين(ع) مازال ينادي(ألا من ناصراً ينصرني).
باب التطوع ما زال مفتوحاً لنصرة الإمام الحسين(ع) كما أن باب الخذلان والوقوف بوجهه ما زال مفتوحاً.
فهو يدعونا لنصرته على كل ظالم في الأرض, وعلى كل فاسق وكافر يسعى في الأرض فساداً.
الإمام الحسين(ع) لم يمت, وبرفع رأسه على القنا أرتفعت رايته وبانت أهدافه وبدأت معركته وأجتذب أنصاره.
كل من عد نفسه لمحاربة الكفر والوقوف بوجه الظلم والطغيان ونصرة المظلوم وعدم الرضوخ والإستسلام فقد لحق بركب الإمام الحسين(ع) وناصره, كنصرة أخيه أبي الفضل العباس(ع) وباقي الأنصار.
الالتحاق بركب الإمام الحسين(ع) لم يكن يوماً محصوراً بمن حضر أرض كربلاء يوم العاشر من محرم سنة أحدى وستين للهجرة بل يشمل كل من تحمل أهداف الإمام الحسين(ع).
خاطب الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري(رض) قبر الإمام الحسين(ع) وأنصاره: (والذي بعث محمد(ص) بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه).
فأعترض عليه عبده عطية العوفي حيث قال: (فكيف ولم نهبط وادياً؟ ولم نعل جبلاً؟ ولم نضرب بسيف؟ والقوم قد فرق بين رؤوسهم وأبدانهم وأوتمت أولادهم وأرملت أزواجهم؟!).
فقال جابر الأنصاري(رض)(يا عطية سمعت حبيبي رسول الله(ص) يقول: من أحب قومناً حشر معهم, ومن أحب عمل قوماً أشرك في عملهم, والذي بعث محمد(ص) بالحق, أن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين(ع) وأصحابه).
أصحابه إذاً في كل زمان, وهم الذين تحدوا الكفر والطغيان والظلم والفساد بكل صلابة وقوة, فلم يرضخوا لواقعهم المشين, وأستنكروا كل قبيح, وحاربوا كل رذيل, ومنعوا كل بدعة, وفضحوا كل خائن, وتحدوا كل ظالم, ونصروا كل مظلوم, وأمروا بكل معروف, ونهوا عن كل منكر, بكل ما أعطاهم الله تعالى من قدرة وطاقة ومعرفة فلم يقصروا بها.
أصحابه كانوا السد المنيع لحماية الإسلام من الأختراق والتبدل والبدع والدسائس والفتن والأعداء, فهم صمام الأمان في الإسلام, قائدهم بذلك الإمام الحسين(ع), يستمدون منه العزيمة وصلابة للحفاظ على الإسلام.
قد جعلوا كل أرض تتجسد فيها أهداف الإمام الحسين(ع) كربلاء, سواء في البيت في العمل في الشارع في المدرسة في المعركة, في كل مكان أجتمع فيه حق وباطل وأبا الحق أن يرضخ للباطل, أو أبا المظلوم الإنذلال للظالم, أو أبا المسلم الأنقياد للكافر, أو أبا الخير الأستسلام للشر.
وأما لو رضخ الحق للباطل فقد تجسد فيه فعل (عمر بن سعد) وأتباعه برضوخهم ليزيد وأنذلالهم لظلمه وأنقيادهم لكفره وأستسلامهم لشره.
الأنصار كل واحد منهم يقاتل من موقعه وبأسلوبه وبقابليته التي أودعها الله تعالى فيه, فالعالم يقاتل بقلمه للقضاء على الجهل والبدع لنصرة الإسلام, والخطيب يقاتل بلسانه لتوعية الناس وإنقاذهم من الظلال لنصرة الإسلام, والعابد يقاتل بدعائه للمسلمين لنصرة الإسلام, والمجاهد يقاتل بسيفه وبندقيته لنصرة الإسلام, والفلاح يقاتل في أرضه من أجل توفير الطعام للمسلمين لنصرة الإسلام, وهكذا جميع الأنصار كل واحد منهم يقاتل ويجاهد في هذه الحياة من أجل نصرة الأهداف التي قام عليها الإمام الحسين(ع).
الإمام الحسين(ع) حينئذ القلب النابض بالحياة للإسلام, لولاه لتلاشى الإسلام وندثر بموت نبيه(ص) كباقي الأديان, ولكن بقتله خلد الإسلام, لتقتدي من بعه الأجيال ويكون رمزاً للتضحية والفداء والشهادة والشجاعة والتحدي والصلابة والصبر والمظلومية.
كان شهيدنا الصدر المرجع الديني المفكر السيد محمد باقر الصدر (قدس) يقول: (أن إزاحة هذا الكابوس الجاثم على صدر العراق يحتاج لأزالته إلى دماء كدماء الحسين ولما لم يكن في زماننا كهذه الدماء أحتاج إلى دماء أكثر ودمي أول هذه الدماء).
بل الإمام الحسين(ع) رمز حتى لغير المسلمين فهذا الهندوسي غاندي يقول: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).
فكل من تعرف على أهداف الإمام الحسين(ع) قدسها وأحبه لأجلها, ولكن فيهم من جعلها نصب عينه وأتخذها هدفاً لحياته وسار بدربها مجاهداً مكافحاً مناصراً حتى يرزقه الله تعالى فيها أحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
ومنهم من غرتهم الدنيا وكانت هي أكبر همهم ولا هدف لهم في الحياة غيرها فخسروا الدنيا والأخرى.
فهذه هي الحياة كلها (حسين) كل يوم منها عاشوراء وكل أرض فيها كربلاء, حتى خروج صاحب الزمان(عج) فيطالب بثارات الإمام الحسين(ع) من كل من وقف بوجه الإمام الحسين(ع) وتخاذل عن نصرته ونصرة الأهداف التي قام عليها, فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مليئة ظلماً وجورا, وتحسم المعركة.