لا تطبيع مع الاحتلال (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين. ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الايام نداولها بين الناس )
مجلة تحليلات العصر الدولية
صدق الله العلي العظيم
عندما سيحكم التاريخ -في يوم غير بعيد- على جريمة الاحتلال الاسرائيلي، وعلى الابادة والظلم والقتل والتهجير والاستيلاء على الارض فلسطينياً وعربياً واسلامياً، فان خطوة التطبيع ستكون في رصيد الاحتلال وما رافقه، وليس في رصيد مقاومة الاحتلال وما يعضده. ففي ظروف دولة الظالم على المظلوم، يصطف كثيرون مع الظالم وينصرونه، ويخذلون المظلوم ولا يصطفون معه.
وقف كثيرون مع العبودية ثم حاسبهم التاريخ. وقفوا مع الاستعمار ثم حاسبهم التاريخ. وقفوا مع التمييز العنصري – كما في جنوب افريقيا وامريكا وغيرهما- ثم حاسبهم التاريخ. بل وقفوا مع المجازر ضد اليهود وحاسبهم التاريخ، وذلك دون الكلام عن المجازر الاخرى. نرجو مخلصين ان تتراجع القيادة الاماراتية عن هذه الخطوة الخاطئة الخطيرة. وسيرتكب من رحب بالفكرة، ومن سيقدم على مثلها الخطأ ذاته.
سيقول بعضهم ان قيادات فلسطينية ومصرية واردنية سبقت للتطبيع. وهذا ايضاً مرفوض، وقاد الى اوهام وخسائر ندفع في كل يوم ثمنها. رغم ذلك كان التطبيع المصري مقابل سيناء، والتطبيع الفلسطيني مقابل الضفة وغزة وعودة منظمة التحرير والكثير من فلسطيني الشتات لارضهم. كذلك الامر مع الاردن. وان حجة القيادة الاماراتية ان التطبيع سيكون مقابل ايقاف الضم هو وهم. فالفلسطينيون اعلنوا موقفهم من الضم، وكذلك كل دول وشعوب العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الامريكية وكثير من اليهود والاسرائيليين. بل ها هو نتنياهو يعلن -جهاراً نهاراً- انه لم يتخل عن الضم، وسيعود اليه في وقت قريب.
التطبيع المعلن الان لم يكن تحت اي ضغط اولاسترجاع اي حق حتى وان كان بشروط مجحفة. انه يريد ان ينفتح على دولة الاحتلال في مجالات عديدة سياحية واقتصادية وعلمية وغيرها، عددها بيان التطبيع. وهذه كلها امور مستحيلة لان شعوبنا رفضت التطبيع، لانها رفضت الاحتلال، ولن تتعامل معه، كما لم تتعامل معه لا في فلسطين ولا في الاردن ولا في مصر. فاين السواح الاسرائيليون في تلك البلدان.. واين السواح العرب في الاراضي المحتلة. فالتطبيع الحقيقي هو انتهاء الاحتلال، وهو تطبيع الاوضاع مع بعد الاحتلال، كما طبعت الجزائر اوضاع المستوطنين الفرنسيين يومها. فشعوبنا سترفض التطبيع مهما طُبل او روج له، او مهما مورست الضغوط لتمريره. فهذا التطبيع مصنع لتمرير الاحتلال، او لانقاذ زعامات. فزيارة السادات حصلت للقدس قبل 43 عاماً، وبقيت السفارات الاسرائيلية في دول التطبيع تعيش في قلاع معزولة عن كل محيطها. وبقي الاحتلال مرفوضاً. وماتت في ارضها الاوهام والمشاريع والاحلام، وما بقي منها ينازع في “غرف الانعاش” واجهزة التنفس الاصطناعي.
لنراجع التاريخ القريب. اذ كان اليهود، واعدادهم بمئات الالاف في العراق مثلاً (كذلك في دول عربية عديدة) يحتلون المراكز التجارية والعلمية والسياسية والفنية المرموقة في البلاد. ففي اول وزارتين عراقيتين في 1920 و1921 احتل اليهودي ساسون حسقيل مركز وزير المالية. وكانت الشورجة -المركز التجاري الاساسي للعراق- شبه محتكرة لابناء الطائفة اليهودية، بل كانت العطلة الاسبوعية هي يوم السبت انسجاماً مع السوق المسيطر عليها يهودياً. وكذلك كانت السيطرة في المجالات الصيرفية والعلمية والادارية والفنية وغيرها. بل كان الكثير من الحركات السياسية العراقية المعارضة بقيادات يهودية معادية للصهيونية، كما هو حال “عصبة مكافحة الصهيونية” في 1945 والتي ضمت يهوداً وطنيين كيوسف زلخة ويعقوب اسحاق ومير يعقوب كوهين واخرين. ثم جاء الاحتلال الاسرائيلي وافسد كل شي على اليهود وغير اليهود. وان التطبيع مع الاحتلال لن يعيد عشر معشار ما كان من وجود يهودي غير صهيوني في بلداننا. سيقولون ان اليهود كانوا مضطهدين. وهذا صحيح في حالات كثيرة. فكان من اليهود من يُظلَم ومن ينتمي للمعارضة شأنه شأن المسلمين والمسيحيين وغيرهم، وكان منهم من يَظلم، شأنه شأن الاخرين ايضاً. لكن هذه مسألة وتلك اخرى.
عادل عبد المهدي