لقوة الناعمة تتسلل إلى جيل الشبّان والشابات العراقي عبر بوابة حزب البعث
مجلة تحليلات العصر الدولية
محمد صادق الهاشمي
8/8/2020
المقدمة
مارست أميركا والغرب بعد (2003) حربًا ناعمةً بلا هوادة؛ للتأثير على فئات الشبّان والشابات والمجتمع الشيعي العراقي، وتوسع حزب البعث والمحيط القومي العربي من خلال الحرب الناعمة: (احتلال العقول) في العمل على تدمير شيعة العراق؛ مستغلين الثغرات والفجوات وخلو الميدان من رجاله، بعد أنْ مارست أميركا مع الشعب العراقي الأنواع المختلفة من القوة الصلبة (احتلال الأرض والمؤسسات والقرار )، وكِلا الدورين واحد.
مدخل :
المقال يُعَدُّ مراجعةً وتقويمًا للساحة الفكرية، بعد أنْ انتصر الخط الغربي في خلق ظروف محددة؛ لنقل السلطة إلى التيار الشيعي المدني وقد يقال: إنّ الإسلاميين ما زالوا بعز قوتهم ولا يمكن لأحد أنْ يمارس أي عمل انقلابي عسكري ضدهم؛ كونهم تمكنوا من تحصين الوضع السياسي والأمني، إلا إنّ القول هنا مختلف؛ كون الانتقال في الحكم ليس انقلابًا أمنيا، ولا سياسيًا، نعم ولا يوجد أدنى خطر من هذا الجانب، بل الانقلاب قد حصل في العقل الشيعي، وهذا يؤشر إلى قدرٍ ما نجاح المشروع الغربي، بعد أنْ فعل تأثيرات القوة الناعمة، نعم قد تحقق بعضه مع إنه ما زال القدر المهم من أمتنا محصن، إلا إنّ الضرورة تستدعي التوجه والعمل أكثر من أي وقت مضى، وكما قلنا إنّ الانقلابات الصلبة تستهدف الأرض والانقلاب الناعم يستهدف العقل، وهنا نقاط :
◾
أولًا – الأسس والمفاهيم الليبرالية التي طرحت في العراق بعد عام 2003م:
لقد ساهمت اتجاهات عديدة للتأثير على الجمهور الشيعي: الشبّان والشّابات، مستغلة حالة الاحتلال ولوازمها من منظمات مجتمع مدني غربية، وتجمعات متعددة لوضع صياغات جديدة للعملية السياسية بما ينسجم مع الفكر السياسي الغربي، وقد أسندت أميركا إلى جهات داخلية وخارجية مهمة الخوض في غمار طرح وتصدير وترويج هذا الفكر داخل العراق في هذه المرحلة؛ بهدف صياغة الفكر والثقافة للشعب العراقي صياغة تحللية متمردة على الإسلام، وفعلاً أخذ يبرز وجود الخط الليبرالي الغربي في العراق بعد 2003م لإعادة إنتاج العقل العراقي، وتثقيفه بمنهج فكري سياسي جديد.
لم يفعل الغرب والاحتلال لطرح أفكارهم ووجودهم بصيغة المحتل وحسب، بل فعلوا أمرًا آخر؛ وهو مشكلة المنجز الاقتصادي، وسوء الإدارة، وثغرات الفساد وغيرها، فضلًا عن الاستثمار في الحروب والأحداث، التي جعلت الإسلاميين في مواجهة دائمة.
هذه المفاهيم التي طرحت ورُوِّجَ لها من خلال الكتابات والأحاديث الإعلامية، ومن خلال الكتب ومواقع الإنترنت (الفضاء المجازي) والندوات والمؤتمرات، وكذلك رُوِّجَ خلال هذه المرحلة لأفكار متعددة أبرزها الآتي :
1 ـ العلمانية: التي تعني فصل الدين عن السياسة.
2 ـ العقلانية: التي ترى أنَّ العقل الإنساني بلغ من النضج قدراً يؤهله أنْ يرى مصالحه ونشاطاته دون وصاية من أحد، سواء أكان هذا الأحد الدين أم الدولة.
3- النفعية والخدمات: وهنا مربط الفرس؛ فإنّ الجيل الصاعد الذي لم يعاصر صدام نجده سهل الانقياد لتقبل فكرة فشل الإسلام السياسي، وبالتبع نجده مستعدًا للانفصال عن الجانب الأخلاقي والعقائدي؛ كونه يعيش تجربة أُحادية لا تتصل بالتاريخ الذي عاناه شيعة العراق من حزب البعث، بل يرى أنّ التقصير هو ما يتصل بعمره في ظل تجربة الإسلاميين ولا يقبل لهم أي تسويغ، ولا يسمح – بفعل المؤثرات – أنْ يتفهم الظروف المحيطة بهم.
ثانيًا: آليات وظروف طرح الأفكار الناعمة
ما تقدم عرض لأهم الأفكار التي رُوِّجَ لها، وكتب عنها وتناولها الكتاب في الوسائل الإعلامية المختلفة، والمؤسسات الفكرية في العراق في تلك المرحلة.
🔷 وهنا عدد من الملاحظات عن الآليات والفرص والظروف الموضوعية والذاتية؛ التي شكّلت فرص نجاح يستفيد منها الغرب وأميركا، والمنظمات الخطرة في بث أفكارهم في المجتمع الشيعي، وهي:
1 ـ الوجود الفعلي الميداني للخط المنحرف:
التبليغ نحو الخط السياسي والفكر المنحرف ما زال فاعلاً ومؤثراً ديمومةً دون توقف، وتقف كبريات المؤسسات الغربية والأميركية لتمويله بكل ما أوتيت من قوة مالية ولوجستية قاصدةً بصورة متصلة، وكاد الخط الغربي لَيوجد له موطىء قدم بين المفكرين الشيعة، ويوجد له من يدافع عنه ويتصدى له، ويعلن عن وجوده في مرحلة ما بعد 2003م، كما أوجد له قدراً من التحقق بعد عام 1921م.
وقد التحق به جيل من الكتاب الذين كنا ـ يومًا ـ نأمل أنْ يكونوا قادة فكر في الصف الإسلامي، ألا إنّهُم اليوم في الصف الغربي بكل وضوح!، هولاء – رجال الخط الاختراقي من الداخل والخارج – عازمون على الدفاع عن خطهم دون تراجع أو توقف، وقد رصدوا الأموال وأسَّسُوا المنظمات، واهتموا بالشبّان والشّابات الشيعة عبر (منظمة آيلب، وعراق كوير) وغيرها العشرات من المنظمات التي تثقف أو تعمل على الإنحرف الخلقي نحو الفواحش؛ أمَا يكفي أنَّ رئيس مجلس محافظة بغداد حينما أصدر قراراً بتاريخ 6/9/2010 لمنع محلات بيع الخمور (غير المجازة) كانت ردة فعل هؤلاء؛ أنْ انطلقوا أفواجاً للتظاهر بقلب بغداد احتجاجا على هذا القرار وعدّوه منعاً للحريات الفردية المدنية التي أقرّها الدستور لهم، وعدّوه توجهاً بالعراق نحو دولة طالبانية أو إيرانية، ولم يصدر عن الحوزة والعلماء والخطباء وأئمة المساجد أي رد، ولا من القوى السياسية، بل يوجد من الإسلاميين من فسره – قرار منع محلات الخمور غير المجازة – أنّه دعاية انتخابية!، إذًا آليات هؤلاء فاعلة ومؤثرة، وهي تتوسع وجوداً داخل الطبقات المثقفة، وأنّهم حاضرون في الميدان، يتحركون بعلانية وقوة، ومتواصلون بالإنتاج الفكري، وهذا الحضور الميداني للخط الاختراقي يعد بحق إحدى الآليات الموثّرة في الساحة؛ لأنَّ أي حركة كي تكون ناجحة؛ فإنّ من لوازم نجاحها هو الإعلان عن نفسها، والدوام في نهجها، وعدم خوفها أو توقفها لأيِّ تحديات كانت، وهذا ماعليه الحركة الغربية الناعمة في العراق.
2 ـ عدم وجود المتصدين:
خلال المرحلة الماضية لا يوجد من يتصدّى للرد على فكرهم وطروحاتهم؛ لأنَّ هكذا دور يجب أنْ تنهض به الحوزة، والحركات الإسلامية، أو الدولة، أو الطبقة المثقفة التي ينبغي أنْ تجد سانداً حوزوياً أو حكومياً للقيام بالمهمة، إلا إنَّ أمراً كهذا لا يوجد بقدر واسع، ونحن نعتقد أنَّ عدم وجود الرد المناسب للدفاع عن ثوابت الإسلام وقيمه، ودحض المنهج الغربي الاختراقي هو إحدى الفرص والآليات التي أدّت إلى أنْ يعزز هؤلاء مواقعهم داخل المجتمع العراقي.
إحدى الآليات التي يستغلها الخط الاختراقي في التوسع هو انشغال الإسلاميين عن ممارسات هذا الخط النظرية والعملية، من خلال نشر الأفكار التي تهاجم الدين وتمس جوهر العقيدة، وهنا شيء لا بدَّ أنْ نلفت النظر إليه، وهو:
من هو المسؤول عن الانتشار الواسع للأفكار المنحرفة وظواهر بيع الأجساد والمخدِّرات؟
هل القانون (الدولة) أم هل هي الحوزات، أو الاحزاب؟ وماهي الآليات؟
هل هي الرد بالتوجيه والإرشاد أم هل هي من خلال إصدار الفتاوى، أو من خلال القانون وتوسيع مساحات المراكز الثقافية؟.
لم تفعل أيٌّ من المؤسسات المذكورة دورها الموكل إليها، لذا شهد العراق انفتاحاً في هذا المجال، وتلك الظواهر يسندها رجال الخط الاختراقي ويضعون لها فسلفة وأيديولوجية؛ للتحول من مجرد ممارسة هابطة وجنحة أخلاقية ومخالفة للشريعة إلى ممارسة لها مبرراتها بأنّها جزءٌ من حرية الفرد وحقه (الاستقلالي) في الحياة، وصولا إلى جعل هذا الخط هو الحاكم تحت مبرر التوجه، أو أنّ حاكميته هي البديل عن الفساد كما يقال لهم، وتحت هذا المفهوم وهذا الشعار توسّعت دائرة التحلل عن القيم الإسلامية بين الجمهور كثيراً، وبرزت ظواهر خطرة جداً تمس الأمن الأخلاقي للمجتمع العراقي، وخرج جيل من الشبّان والشابات يعلن التمرد، وفي أعماقه تندس بخفاء بالغ منظمات حزب البعث والحركات الغربية والتمويل الخليجي.
3 ـ انشغال ومشاغلة الحركات الإسلامية:
ومن آلياتهم العملية هي استغلال انشغال الخط الإسلامي بالشؤون السياسية والحكومية، ومواجهة التحديات الأمنية والدخول في التجاذبات، وانشغالاتهم بالأمور الإدارية، ولقد أثّر ذلك سلباً في برنامجهم التربوي الذي كانوا يوماً ما يرون أنَّ الدولة لديهم ليس غاية، بل هي أداة ووسيلة؛ لنشر الفكر الإسلامي والترويج لمذهب آل البيت (ع) وتربية الأمّة تربية صالحة، وأن كل البيانات والإصدارات التي تابعناها لهذه الأحزاب والحركات الإسلامية قبل سقوط حزب البعث من عمرهم الجهادي؛ كانت قد ركّزت على الأمّة قبل السلطة وبعدها، وأن التربية قبل أيِّ مشروع، وأنَّ الدولة في مفهومهم وسيلة وفرصة لبناء مشروع تربية هذه الأمة تربية إسلامية، والحال أنَّ ما نلاحظه عملاً وما تفرزه معطيات الواقع أنّ هذه الرؤى النظرية – بتقصير أو قصور – لم تأخذ دورها إلى حيز التطبيق بعد 2003، وللإنصاف لا ننكر ما قام- الإسلاميون – به من أداء وواجبات، والنهوض بمهماتٍ كبيرة من تأسيس الحق الشيعي وترسيخه في الدستور والدفاع عنه، لكن هذا لا يعني سقوط التكليف عنهم في الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زيادةً إلى أنَّ انشغال بعضهم لا يُسوِّغ للآخرين منهم أنْ لا ينهض بهذه المهمة.
المهم هذا الانشغال من جميع الإسلامين بمواضيع هامّة وتحديات خطيرة وظروف قهرية سواء أكان مبرراً أم لا، فتحَ الباب على مصراعيه للخط الاختراقي؛ ليصول ويجول؛ وليملأ الفراغ في الساحة الفكرية في العراق دون رادع بعد أنْ وجدوا الساحة متروكة لهم، نقول بِلَوعة لهؤلاء المنحرفين أنْ يتجرؤوا ويمسّوا قدسية الإسلام في الستينيات والسبعينيات يوم كان الخط الإسلامي من الدعاة وغيرهم حاضرًا للرد والدفاع عن حياض الإسلام، وأن كلَّفَهُ الدم، وله الكعب المعلّى في القول الفكري السديد، وإصداراته التي أخذت حيزها الثقافي بين الأجيال وعلى رأسها كتابَي: اقتصادنا وفلسفتنا، وكتب أخرى، أما آن لهؤلاء الرساليين أنْ ينهضوا اليوم ليعيدوا أمجاد القلم الإسلامي؟.
4 ـ علمانية الدولة:
الدولة العراقية بلا إشكال لا يمكن أنْ تحسب على أنّها ذات هوية إسلامية، لا من حيث الدستور، ولا من حيث البناء المؤسساتي لها، ولا من حيث القوى السياسية المشاركة فيها، بالمعنى الأخص، نعم هوية العراق الأيديولوجية لا يمكن أنْ نصفها بالإسلامية لا بالمعنى العام ولا المعنى الأخص، فمن اللحاظ العددي نجد أنَّ مساحة الخط العلماني كبيرة، فإنّ القوى السياسية الكردية نسبة (80%) منها علمانية، أمّا الأحزاب السنية فتمثّل الخط العلماني العربي، وأمّا القوى الشيعية فمنهم من تنصل عن إسلاميته جنوحًا نحو المدنية، وآخرون يحاولون.
إذًا من اللحاظ العددي لا يمكن أنْ نحكم على هوية الحكم في العراق وأيديولوجية بأنّ دولته إسلامية لما ذكرناه، وعليه يكون عدد التيار السياسي الشيعي المدني لا يستهان به، ومن حيث النوع فإنَّ الحركات الإسلامية العراقية تعاني من:
أ) إنّ الإسلاميين أصحاب المشروع عدد محدود وليس كل الأفراد في الحركات على النهج ذاته؛ فهناك تفاوتٌ كبير بين فرد وآخر من حيث التاريخ والإخلاص، والاهتمامات ونوعية الاهتمامات.
ب) الحركات الإسلامية نفسها لم يتضح مشروعها الإسلامي التربوي بقدر وضوح مشروعها السياسي، وليس في الأمر نقاش، وإنّه من المسلّم تسالماً يقطع الكلام بأنَّ المشروع التربوي لهذه الأحزاب لتربية الأمّة؛ لم يعد في صلب الاهتمامات والبرامج، نعم توجد اهتمامات من هنا وهناك من الأحزاب ومن الحوزات إلّا إنّها دون الطموح، ولا تُمثِّل بمجملها نهضة متكاملة للوقوف بوجه التحديات.
ج) الدستور حاكمٌ على التوجّه العام لفكر الدولة، وهذه الحاكمية آلية مهمة في فرض الأيديولوجية السياسية.
من هنا نحكم على الدولة العراقية بأنّ توجهها العام توجّه يكاد يكون مدنيًا، وهذه تعدّ إحدى الفرص والأرضيات التى تعد أهم آليات الخط الاختراقي لطرح أفكارهم، وكأنَّ الدولة هي التي تولّد الفكر السياسي المدني أو تُمثِّل حياديتها فرصةً لهم.
5 ـ الحاضنة الاحتلالية:
كما أنَّ الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين فرض أجندات فكرية، وتدخل في بناء ثقافة العراق، واستطاع أنْ ينتج حركة علمانية في العراق، ويصدر للعالم الإسلامي حركات منحرفة: (البهائية، والقاديانية والوهابية)، وأنْ يصدّر الاحتلال البريطاني إلى المجتمع العراقي مبادىء الدولة القومية الأوروبية التي برزت بصفتها فكرَ دولةٍ في القرن السادس عشر الميلادي، وهكذا يفعل المحتلون، وليس المحتل الأميركي بدعاً من حركات الاستشراق والاختراق الممتدة في أعماق التاريخ والتاريخ المعاصر، وليس أدل على تدخلهم في الصياغات التفصيلية للدستور؛ بهدف بناء الفكر السياسي للدولة، ونكتفي لتقديم الدليل على تدخّلهم السافر في صياغة الفكر السياسي العراقي على وفق الآتي:
الأول: بيان السفارة الأميركية بتاريخ 17/8/2009، الذي يعرب عن (قلقهم على الحريات العامة والفردية في العراق إزاء قرار مجلس محافظة بغداد بمنع محلات الخمور غير المجازة!.
الثاني: صدر بيان في اللغة نفسها بتاريخ 11-2-2009 يعرب عن (عميق قلقهم لمنع ظاهرة الإيمو في العراق)! هذا فضلًا عن الدعم المادي والمعنوي الذي تمثل برفع السفارات والاتحاد الأوروبي علم (المثليين: أصحاب الفواحش) عام 2020.
من هنا يمكن القول: إنّ وجود الاحتلال وحزب البعث يُمثِّل حاضنةً مهمة لهذا الخط، ويكون إحدى فرص نجاحه وإحدى آلياته القوية للنفوذ في أوساط الطبقات الثقافية في العراق، ولا يمكن تصور احتلال دون خط سياسي وتأثيرات خاصة.
6 ـ محاربة الخط التحريري في العراق:
يعلم هؤلاء أنَّ سر قوة المجتمعات الإسلامية بما فيها العراق بنحو خاصٍ ونجاحها عندما تأخذ بالمنهج الثوري التحريري للإمام الحكيم والصدرين وللإمام الخميني، ومن واصل بعده قيادة هذا المنهج، الذي أنجز للمسلمين وجوداً ما كان متحققًا من قبل.
الخط الإسلامي الثوري ينافي الحركة الاختراقية بالعمق والصميم، ويخالف وجودها، ويلغي دورها، ويُعدّها حركة استعمارية تمرر الفكر الغربي السياسي الهادف للاستيلاء على ثروات الشعوب، ونهب خيراتهم واستعبادهم وتدمير طاقاتهم؛ لأنّ الإسلام الذي قدّمه لنا المنهج الثوري التحرري إسلامٌ جعل الشعوب تدرك ـ بصحوة عالية ـ أنّ هذا المنهج طريقها إلى التحرر واستعادة كرامتها وعزتها، وقد أدركت الشعوب أنَّ كل الثروات التي نُهبت، والدماء التي سُفكت، والطاقات التي عُطلت؛ ليست إلّا بفعل المناهج الغربية وعلى رأسها المنهج الليبرالي والفكر البعثي الذي يستبطن في أعماق أعماقه أنْ يكون حركة استعمارية مغلفة بالفكر.
هؤلاء القادة العظام قدّموا لنا فكراً سياسياً؛ من خلاله فهمت الأجيال أنَّ الفكر (الناعم والقومي الذي أوكل دوره لحزب البعث عقودًا) يعني تمرد الأمم والإنسان على دينهم لتمرر من خلال ذلك مؤامرات الاستكبار التي يكون تحقيقها منوطاً بخلق أجيال هامدة لا قيمة لها؛ لأنّها أمم منغمسة باللذّات والشهوات.
الغرب يدرك أنّ العراق شعبٌ مسلمٌ: شيعيّاً كان أو سنيّاً، وإنْ كان الشيعي أقرب إلى فرضية أنْ يتأثّر بالمنهج الثوري والخط السياسي لفكر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لذا شن الاستكبار والبعثّيون والعلمانيون والمتأثرون بالغرب والتنوير الزائف حملة شعواء بلا هوادة؛ لتسقيط سمعة الجمهورية الإسلامية في نظر الشعب العراقي بهدف فصل وتفكيك الأُمتين، ولخلق فواصل نفسية وعقائدية وسيادية بينهما إكمالاً للفواصل التي أوجدها صدام بأوامرهم من قبل.
هذه الهجمة على هؤلاء القادة والمقاومة، وإيران هي آليتهم لضرب الإسلام السياسي وتشويه صورته، وليس الأمر بحاجة إلى عناء كثير لفهمه من أي متأمل؛ بعد تظافر الجهود لدى المعسكر الليبرالي داخل العراق وخارجه ليعرف حجم الهجمة، ومنها يعرف حجم المخطط الخطير، ومن ثم يتعرف المتأمل والمراقب أنَّ المستهدف هو الأمّة الإسلامية في العراق للفصل بينها وبين مقوّمات نهضتها والاستيلاء عليها، وللسير بها نحو تحطيم إرادتها، وجعلها أداة طيعة بيد صنائع الاستكبار.
7 ـ دور الكتاب في الخارج:
إحدى آليات الليبراليين في ترويج أفكارهم: مجموعة الكتّاب الذين احتضنهم الغرب وآمنوا بفكره السياسي، وهؤلاء الكتّاب منهم من كان محسوباً على الخط الماركسي أو الخط اليساري أوكانت ثقافته ثقافة غربية أصلاً، وقد شكّل هؤلاء الذين يجمعهم المهجر والحياة في الغرب، والإيمان بالفكر الغربي قاعدة مهمّة لرفد الحركة المنحرفة في العراق بالنتاج الفكري عبر عديد من الإصدارات والبحوث والمقالات؛ فنشط النشر (عشرات الكتب ضد الإسلام السياسي) وسُخِّرَ (الفضاء المجازي) مادةً سهلة للاتصال بالجمهور الشيعي حسب الفئات العمرية المستهدفة، علمًا أنّ حركتنا الإعلامية والفكرية تعاني النقص والخمول، وتسلط غير المؤهلين لإدارتها.
8 ـ استغلال الإرهاب:
ظهور الإرهاب في العراق والقاعدة والفكر الإسلامي المتطرّف الذي تقوده عناصر تُسيّر من قِبل الغرب لتأجيج المشاعر ضدَّ الإسلام والمسلمين، تلك الخلايا الإسلامية الخطرة والقمعية والشاذة مارست دوراً خطيراً في العراق ليس على المستوى الأمني بل في مجال آخر، وهو ترويج أفكار قمعية تسلطية دموية متخلفة حسبتها على الإسلام مستفيدة من قراءات أسلافهم، تلك السلوكيات والأفكار أعطت صورة مشوّهة عن الإسلام، واستغلت من قبل الغرب والبعثيين ورجال الحرب الناعمة في العراق للتشنيع بالدين ونظمه السياسية؛ ليقولوا للأمة إنّه دين غير قادر على طرح نموذج حكومي سليم قادر على حل المشكل الاجتماعي، وإقامة دولة عادلة، مستفيدين من النفور النفسي لبعض الشرائح الاجتماعية العراقية، من الإسلام السياسي.
9 ـ أخطاء الاسلاميين:
أخطاء الإسلاميين الإدارية والسياسية والإجتماعية، والفساد المالي، ونقص الخدمات وسياسية الاستقطاب والمحسوبيات والمنسوبيات والترهل الإداري، وغير ذلك من السلوكيات التي صارت دليلاً وآلية لدى العلمانيين للتشهير بالإسلاميين وأدائهم الحكومي، ومِن ثَمَّ بالفكر السياسي الإسلامي، وانطلق القول من البعثيين والمدارس الغربية: (بأنّ الإسلام لا يصلح لإقامة دولة)، كل ذلك الطرح تمهيدًا لطرح بديلهم الأميركي بعقلية بعثية قومية، حينها ترسخت القناعات أكثر بأنَّ الإسلاميين لا رجعة لهم إلى طريق الصواب، تلك الرؤية والثقافة الاجتماعية أخذ يستغلها المنحرفون بصفتها إحدى آلياتهم لتسقيط الإسلاميين وتهميش دورهم وإخراجهم مستقبلا من دائرة التأثير السياسي، وإحكام قبضة الانقلاب الفكري وليس العسكري.
10 ـ الانفتاح الإعلامي:
الانفتاح الإعلامي الذي رافق الاحتلال بعد 2003 من فضائيات ومسلسلات وبرامج وإعلام… كل هذا ولّد انفتاحاً نفسياً وأخلاقياً؛ جعل سلوكيّات عديد من النخب والشبّان والشابات متمردة في التوجّه سواء أشعرت بذلك أم لا، بقصد أو بدون قصد.
11 ـ التجاذبات بين الإسلاميين:
التجاذبات بين الإسلاميين (سنة وشيعة) وانشغالهم بالخلافات السياسية فيما بينهم؛ هيأ الأجواء للخط الليبرالي ليطرح ما يشاء حينما وجدوا الميدان الفكري خالياً لهم.
12 ـ الكتب الإيرانية المترجمة:
لوحظ بعد 2003 تسرب الحركة الفكرية المدنية من المدرسة الفكرية الإيرانية إلى ثقافة الشعب العراقي وإلى أوساط النخب العراقية، برزت هذه الحركة بوضوح للمثقف العراقي وهو يقرأ كمًّا كبيرًا من الكتب المترجمة للكم النوعي من المفكرين الإيرانيين: (سروش، شريعتي، شبستري، كوكبيان، وآخرين)، الذين يدافعون عن التجربة المدنية الاختراقية، هذه الحركة الاختراقية في العراق من خلال احتضانها هؤلاء وترجمة كتبهم؛ تريد إيصال عدد من الرسائل إلى الرأي العام العراقي وهي:
أ) إنّ المثقفين الإيرانيين غير منتمين إلى تجربة إيران السياسية وخطها الفكري الإسلامي، وهذا يعد دليلاً على إخفاق التجربة الإسلامية الإيرانية ونقدها من الداخل.
ب) رسالة أخرى مهمّة وهي توسيع قاعدة الجمهور المدني في العالم الإسلامي؛ لتتكامل رؤيته وتجربته وتتلاقح نتاجاته، ومن ثم يتكون معسكر فكريّ واسع بمواجهة الفكر الإسلامي، وقد حصل هذا التلاقح فعلا.
ج) هذه الترجمة الواسعة لكتب سروش وشبستري وشريعتي وغيرها العشرات ربما الهدف منها أنْ يقوم الاختراقيون بحركة استباقية بتصدير الفكر الغربي الصادر عن مفكري إيران قبل أنْ يُصّدر الى العراق ومثقفيه الفكر الإسلامي الثوري من مهدها.
13- الفهم القاصر إلى مفهوم المقاومة:
وجدنا الخط المقاوم في العراق ينزف الدماء لحفظ الإسلام والعباد والبلاد، إلا إنه لم يتوسع في القدر ذاته في التربية للأمة والأجيال الصاعدة، فإنّ المقاومة لا يمكن اختزالها بالسلاح، بل السلاح يحتاج إلى عقيدة ووعي وبصيرة؛ ومن هنا لا بد أنْ يتحرك الخط المقاوم بكل ثقله إلى فتح المدارس والمؤسسات الثقافية بالقدر نفسه للمعسكرات وأكثر.
الخلاصة:
هذه هي الآليات التي يستفيد منها الغرب لترويج أفكارهم، وبسط نفوذهم الفكري في العراق ومن خلال جمهور بريء، وآخرين منهم يُستَغَلَّون من قيادات حزب البعث، وقد نجحوا نوعاً ما في التمدد على شرائح عدة، وطبقات مهمة من المجتمع العراقي، واحتلوا وسائل إعلام ومؤسسات ترويج ثقافي واسعة، وقد وضعوا لهم موطىء قدم في الثقافة العراقية، وفي المجتمع كذلك بدرجات متفاوتة، ولئن يدّعي أحدٌ إنّ الأمة في العراق محتفظة بقدر كبير من عاطفتها والتلاحم مع الشعاير الدينية والمزارات والحوزات والمنابر وخير دليل الزيارات المليونية في عاشوراء؛ فالجواب وباختصار شديد يظهر من خلال الفصل بين العاطفة وبين السلوك العملي، وما أنتجته حركة تظاهرات تشرين دليل على ضرورة المراجعة.
خلاصة الأمر لا يدعي أحد إنّ التفعيل والتفاعل العاطفي الديني في العراق مبنٍ على فكر سياسي يؤهل الأمة لصون تجربتها السياسية وقيمها الإسلامية، وتحصين لسوكها الأخلاقي والإجتماعي؛ ما لم يساوقه مشروع تربوي، وأهل مكة أدرى بشعابها.
وحتى ننهض لا بد من توفر الشروط التالية :
1- أنْ يبرز القائد الإسلامي ويحمل قلمه كما حمل البندقية والكلام موجه إلى كل غيور.
2- أنْ تتوجه القيادات الإسلامية، والخط الثوري نحو الأمة بالتربية، والمؤسسات الثقافية، والمؤسسات الخيرية.
3- أنْ لا يكون اتصالنا بالأمة اتصالًا وتواصلًا انتخابيًا فقط.
4- أنْ يكون لنا مشروع إعمار خاص على غرار ما تقوم به العتبات.
5- أنْ نهتم بمؤسساتنا الإعلامية، وتُطَوَّر أساليبها وأدواتها، ودعم المفكرين والمثقفين والعاملين.
6- خلق قيادة موحدة من النخب والمثقفين تنسق الجهد التربوي ليكون لدينا (حشدً فكريًا إسلاميا).
والله الموفق .