ما هي “الدولة المدنية”؟

محمد حسن زيد
العصر-نسمع مصطلح “الدولة المدنية” يتردد في المنابر السياسية والإعلامية ولكل شخص تفسيرُه الخاصُّ به سواء كان مؤيدا لـ”الدولة المدنية” أو معارضا لها، لكن الصوت الأعلى رفعا لشعار “الدولة المدنية” هو المعارض لأنصار الله والذي تزامن مع الإحساس بفشلهم الإداري والسياسي والذي اختزل البعضُ سببه في كون أنصار الله “دولة دينية”. فهو بذلك يفترض أن “الدولةَ المدنية” مصطلحٌ يُقابل مصطلحَ “الدولة الدينية”!
وحين يُسأل أين هو النموذج الواقعي لـ”الدولة المدنية”؟ وما هي الضمانة أن لا تتحول “الدولة المدنية” بدورها إلى شعار آخر يتم استغلاله للوصول إلى السلطة كما تم استغلال شعارات الدين والوطن والحرية والعدالة؟ تظل الإجابة حائرة بين أحد النماذج التالية:
1- *نموذج السويد (الرخاء والنزعة الإنسانية) :*
هناك فريق يتصور ان “الدولة المدنية” هي كنموذج الدول الغنية كالسويد والدنمارك والنرويج وسويسرا وفنلندا والتي توفر لمواطنيها حياة محترمة وخدمات ممتازة رغم انها دول لا ترى حرجا من الاعتزاز بهويتها الدينية (فجميعها يرفع الصليب المسيحي صراحة في أعلامها) ولا ترى بأسا من إحراق القرءان الكريم ومنع الحجاب واختطاف الأطفال من آبائهم المسلمين برعاية القانون وحمايته لتعليمهم الشذوذ الجنسي.. فهل دولة مثل السويد هي نموذج “الدولة المدنية” المنشودة؟
2- *نموذج الصين (البناء الاستراتيجي والنهضة الشاملة) :*
الصين يعدها الكثيرون أعظم قوة صاعدة في العالم، ويرشحونها لتصبح القطب الأقوى في المستقبل القريب حتى قال أحد السياسيين “حان الوقت لنتعلّم الرقص الصيني”!
ورغم ان النظام في الصين شمولي لا يُتيح التعددية السياسية ولا يقوم على الديمقراطية ويحد كثيرا من الحريات إلا انه نظام ناجح ومتقدم وعظيم يتفوق على الغرب في شتى المناحي سيما بعد أزمة الديمقراطيات الغربية، فالصين التي تؤمن بنظرية “الجدارة السياسية” وتهتم بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتؤمن بفكرة ترقية القادة الذين يمتلكون مستوىً عاليا من القدرات والفضائل وتُصرُّ على وضع أشخاص مدرّبين وعلى درجة عالية من الكفاءة في المواقع القيادية، سواء تعلّق الأمر بالعلوم أو القانون أو الشركات العابرة للقارات، هي الدولة التي تمتلك الآن أكبر مخزون للذهب في العالم حتى ان الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها مستدينة من الصين وذلك يعكس مدى قوة الصين الاقتصادية الهائلة حيث يعتبرها الكثيرون الأقوى انتاجية وازدهارا على وجه الأرض. كما انها أيضا ضمن نادي أقوى القوى العسكرية والفضائية والتكنولوجية والرياضية والفنية والحضارية في العالم، فهل هذه هي “الدولة المدنية” المنشودة؟
3- *نموذج تركيا (الجمع بين النقائض) :*
قاد مصطفى كمال أتاتورك ثورةً للتحديث أنتجت نظاما جديدا للحياة بُني على أساس النمط الغربي وصارت به تركيا دولة علمانية صرفة تُعادي الإسلام وتحاول إلغاءه من حياة الأتراك لأن أتاتورك رأى في الدين الإسلامي سببا لتخلف تركيا وانه تحول إلى وسيلة سياسية للديكتاتورية الدينية وإضفاء الشرعية على سلاطين فاسدين تخلوا عن سيادة الأمة التركية من أجل البقاء في الحكم، وان الدراويش والشيوخ امتلكوا سلطة كبيرة تعرقل تقدم الدولة وتُصرُّ على التمسك بالثوابت الإسلامية! كان تأثير أتاتورك قويا في المدن الكبرى فأدى إلى اختفاء مظاهر الإسلام منها حتى أصبح “رجعية” وزادت الإصلاحات المتعلقة بالمرأة عدد المواليد غير الشرعيين بين المراهقين وجاهر الجيل الجديد بشرب الخمور والإفطار في رمضان وعدم احترام الدين. لكن أثر أتاتورك كان أضعف على الأرياف (حوالي 80% من عدد السكان) التي رفضت إصلاحاته لكنها رفضتها بهدوء وتجنبت الصدام مع المؤسسة العلمانية الحاكمة واستمرت سرا بإنشاء المؤسسات الإسلامية إلى أن وصلت إلى السلطة بقيادة نجم الدين أربكان الذي انقلبت عليه المؤسسة العسكرية العلمانية بصورة فجة وحلت حزبه، فعاد الإسلاميون بثوب مختلف عبر حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان حيث طبقت تركيا بقيادته العديد من برامج الإصلاح تحت شروط البنك الدولي وعملت على تعزيز العدالة الاجتماعية وحققت ازدهارا اقتصاديا ملموسا وعُنصُرَ جذبٍ للاستثمارات الخارجية ودورا سياسيا فاعلا في المحيط العربي والإسلامي والدولي تميز بالجمع بين النقائض كالجمع بين العلمانية والإسلام والجمع بين التحالف العسكري مع إسرائيل وبين معارضتها وكالجمع بين الانتماء للناتو وبين الاعتزاز بالتراث العثماني وكالجمع بين تصدير المسلسلات المُشيعة للفاحشة وبين رعاية تيارات جهادية إسلامية..
فهل هذا هو نموذج “الدولة المدنية” المنشودة؟
4- *نموذج ماليزيا (أسلمة التنمية واستنبات المعرفة) :*
النموذج الماليزي لم يكن لينجح لولا تأمين الاستقرار السياسي لدولة ماليزيا وذلك لم يتحقق إلا بإبعاد العسكر عن السلطة ثم اتخاذ القرارات وفق عقد اجتماعي بين أحزاب سياسية تمثل الإثنيات المختلفة من خلال الحوار والتفاوض، مع التحرر من النصائح الضارّة للبنك الدولي والاهتمام بالمؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري من خلال تحسين الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية للسكان.
التنمية في دول العالم الإسلامي الأخرى ظلت حبيسة النظريات والرؤى الضيقة، وحسب ما جاء في “موسوعة محضير محمد” المكونة من 10 مجلدات أن ذلك ما حدا بمهاتير محمد إلى الاعتراف بأن البلدان العربية التي حلت فيها الأفكار الاشتراكية والشيوعية محل الإسلام والقيم الروحية، تم فيها تخفيض عدد المساجد والمدارس الدينية ولم يعد اسم الله يُذكر، ولم يؤدِ بهم هناك إلى رفض التنمية في إطارها الإسلامي فحسب، بل إلى رفض الإسلام صراحة.
النموذج الماليزي الذي قرر مهاتير محمد أسلمته يتميز بانه عملي توسعت به الطبقة المتوسطة وتحول الاقتصاد الماليزي فيه من اقتصاد يعتمد على الزراعة وتصدير المواد الأولية إلى اقتصاد صناعي. وكان ذلك كله نتاجا لخطة استراتيجية ارتكزت على تطوير المجتمع الماليزي من خلال التعليم واستنبات المعرفة. لكن ما يُعاب على ماليزيا انها ضعيفة عسكريا وذلك ما يتيح ابتزازها بإمكان انهاء نهضتها واستقرارها بقرار خارجي.. فهل هذا هو نموذج “الدولة المدنية” المنشودة؟
5- *نموذج تونس المعادي لمظاهر الإسلام المستخف بأحكامه (الاستخفاف بالدين):*
النموذج التونسي هو النموذج الوحيد الذي استخدم مصطلح “الدولة المدنية” صراحة لكنه استخدمه باعتباره رديفا لـ”الدولة العلمانية” ودعا به للتخلص من بعض الأحكام الإسلامية التي يراها سببا لتخلف المجتمع الإسلامي كخلع الحجاب وفرض الاختلاط الأيديولوجي والربا والتجارة بالخمور وغير ذلك إذ قال الرئيس التونسي : *”لا علاقة لنا بالقرآن، نحن دولة مدنية مرجعها الدستور ولسنا دولة إسلامية مرجعها القرآن”* فهو يفهم ان “الدولة المدنية” تتنافى مع حاكمية القرآن الكريم ومن الطبيعي أن يدعو العمال للإفطار في رمضان وأن يخَلَع بيده حجاب النساء وأن يكلف المخابرات بتتبع المصلين المواظبين في المساجد!
في ظل هذه النظرة لن يكون ممنوعا في ظل دولة مدنية “علمانية” كهذه أن يترشح يهودي يمني أو ملحد يمني لرئاسة الدولة طالما كان أكثر كفاءة من المسلمين، فالمهم في ظل العلمانية أن يكون يمنيا بقطع النظر عن دينه أو معتقداته. فهل هذه هي “الدولة المدنية” المنشودة؟
6- *نموذج سلطنة عمان (الحياد السياسي) :*
سلطنة عمان الشقيقة هي أقرب الدول لليمن في ثقافتها وجغرافيتها وسكانها والتنوع المذهبي فيها لكنها دولة ناجحة مستقرة إداريا ومحافظة ثقافيا ومنفتحة اقتصاديا ومدعومة شعبيا ومحبوبة عربيا.. أذلك لأنها تلتزم موقفا محايدا في جميع الصراعات بالمنطقة؟.. كما انها تتجنب الخطاب الديني أو الظهور بمظهر ديني رغم ان الهوية المذهبية الإباضية للنظام فيها هي هوية ظاهرة غير خفية، ورغم إن الحاكم فيها لا يُشترط فيه ان يكون إباضيا فحسب بل يشترط أن يكون منتميا لأسرة إباضية محددة..
فكل هذه المعطيات وأهمها هو الحياد عن الصراعات في المنطقة شرط للاستقرار السياسي أتاح نقل البلد نقلة نوعية وفرت حياة كريمة للمواطنين وذلك أهم من الشعارات الرنانة التي لا تجلب إلا الحرب والدمار، فهل هذه هي “الدولة المدنية” المنشودة؟
فالمطالبة بـ”دولة مدنية” على غرار هذا النموذج معناه أن مشكلة هذا الفريق مع أنصار الله هي مشكلة في موقفهم السياسي وخطابهم الإسلامي ومدى نجاحهم الإداري وليست مشكلة مع شكل الدولة أو فلسفة الحكم أو مذهبية السلطة، فهذه سلطنة عمان الشقيقة دولة ناجحة رغم ان نظامها ملكي ومذهبها إباضي تحتكره أسرة واحدة..
7- *”دولة مدنية” مقابل دولة العسكر (التعددية السياسية والحريات) :*
هذا الفريق يعتبر أن” الدولة المدنية” هي عكس “دولة العسكر” التي سادت العالم العربي منذ خمسينيات القرن الماضي ورفعت الشعارات التقدمية والاشتراكية والقومية واتسمت بالشمولية والقمع.
فمطالبة هذا الفريق بـ”الدولة المدنية” معناه رفض دولة العسكر البوليسية ومعناه الرغبة في أن يحكمنا أشخاص “مدنيون” يصلون إلى الحكم بطريق ديمقراطي تعددي تُحترم فيه الحقوق والحريات وتزدهر فيه البلد بعد أن باءت تجاربُ العسكر بالفشل في أعين الكثيرين.
8- *”دولة مدنية” مقابل دولة الريف (رجال الدولة) :*
هذا الفريق يعتبر أن قيادة الدولة بعقلية الريف أمر خطير باعتبار أن أصحاب الريف نشأوا على كراهية “الدولة” واستثقال المؤسسات والأنظمة واللوائح وسيادة القانون، ولا يستوعبون مثلا فائدة “قانون المرور” لأنهم نشأوا في مجتمع لا يُعاني من مشاكل “المدينة” والانفجار السكاني فيها ولا فرق عندهم بين أن تمشي السيارات إلى الخلف أو تعكس الخط أو تقف بشكل عرضي في أي موقف فكل هذا بالنسبة لهم شكليات تافهة.
وكذلك هم ينظرون إلى فكرة المؤسسات والأنظمة والقوانين واللوائح كأفكار معقدة تتنافى مع البساطة والأصالة ومجرد شكليات متعبة.
كما ان الدولة بالنسبة لهم وحسب تجربتهم هي عدو تاريخي لم يُقدّم أي خدمات بل كان يأتي فقط لنهب الضرائب منهم ونشر الرذائل بينهم والتكبر على الأبرياء وسحقهم!
فالمطالبة بإقامة “دولة مدنية” في هذه الحالة معناه رفض إدارة الدولة بعقلية الريف التي لا تجهل أهمية “الدولة” فحسب بل قد يصل الأمر بها للعمل الممنهج لتفكيك “الدولة” وتدميرها من داخلها بهدف إراحة المجتمع منها وإعادته للحياة الفطرية الرومانسية الأصيلة البسيطة التي تخلو من تعقيدات الضوابط والقواعد والمؤسسات واللوائح والأنظمة والقوانين المدنية المعقدة.
9- *”دولة مدنية” مقابل الدولة الدينية (المتاجرة بالدين) :*
من ينادون بـ”دولة مدنية” في هذه الحالة إنما ينتقدون استغلال البعض للدين للوصول إلى السلطة وتكوين نظام سياسي “دولة دينية” تأخذ دون أن تُعطي وتسعى لتغيير الآخرين دون ان تتغير فهدفها هو تجميد التاريخ في الماضي السحيق وغرضها هو فرض مذهبها على الجميع مستخدمة الدولة وأجهزتها لتحقيق هذا الهدف المحدود!
فالأولوية بالنسبة لـ”الدولة الدينية” هي الترويج لخصوصياتها المذهبية وليست أولويتها بناء الوطن أو مصلحة الناس، كما ان الأولوية بالنسبة لـ”الدولة الدينية” هي الشعارات الرنانة والأهداف العامة التي لا يمكن قياس نجاحها من عدمه، وفي نفس الوقت “الدولة الدينية” تفتقر لمشروع تفصيلي حقيقي ملموس سواء في الاقتصاد أو الإدارة أو السياسة ولذلك من الطبيعي أن يصل الحال بها دائما إلى الفشل، لماذا؟ لانها لا تستعد لتحمل المسؤولية بتربية كوادر أو بإعداد خطة بل لسان حالها هو “لنتوكل على الله” وهي في الحقيقة تتواكل، ومن الطبيعي أن تخرج الأمور عن سيطرتها وتصل بها إلى الفوضى والضياع والفشل فالله تعالى يأمر بالأخذ بالأسباب حتى عند إنجاز أبسط الأشياء فقد أمر مريم عليها السلام أن تهز بجذع النخلة ليسقط التمر رغم انه كان قادرا عزوجل أن يخلق لها “كعكة بالتمر” خلقا من العدم.. فهذا توجيه إلهي لمريم ولجميع المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب ثم يتوكلوا على الله لا أن يتواكلوا فيسيئوا إلى أنفسهم وإلى دين الله..
يأخذ دعاة “الدولة المدنية” على “الدولة الدينية” انها تمارس القمع والظلم والقتل بضمير مرتاح لانها تنسب ذلك إلى الله بل وأحيانا تتقرب به إلى الله. كما انها ترفع كرت الحق الإلهي في وجه خصومها السياسيين وتدفعهم دفعا لكراهية الله والحق وتدفعهم للعمل على حرقه للدفاع عن مصالحهم، كما ان مما يعيبه دعاة “الدولة المدنية” على “الدولة الدينية” تسترها بالدين للحصول على مصالح دنيوية فطالما يُشاهد المجتمعُ دعاةَ الصبر والصمود والزهد غارقين في الترف والبساتين والقصور والسيارات الفارهة بينما الشعب غارق في الفقر المدقع مُطالبٌ بالصمود والكفاح ترى قادة “الدولة الدينية” يختبئون من الشهادة التي يدفعون أبناء الناس إليها ثم ينشغلون بالتنافس على المناصب والألقاب والأموال في لعبة النفوذ والوجاهة والترف!
المطالبون بـ”الدولة المدنية” لا يكرهون الدين بل يكرهون من يستخدم الدين للوصول إلى السلطة والتشبث بها ومنافسة الناس فيها! هم يكرهون من يمارس الظلم والقمع والفساد باسم الدين.
هنا كان الحد الطبيعي لدُعاة “الدولة المدنية”، لكن الحد غير الطبيعي أن يتماهى دعاةُ “الدولة المدنية” في خصومتهم السياسية مع من يستغلون الدين إلى حد كراهية الدين نفسه.. وتلكم والله من أغرب حالات تصنيم “الدولة المدنية” تكاد تجعل منها بديلا عن الدين نفسه نسأل الله الهداية لنا وللجميع..
10- *”دولة مدنية” مقابل الإمارة والسلطنة والمشيخة (مراكز القوى) :*
الإمارات والسلطنات والمشيخات تتمحور حول شخصية الأمراء والسلاطين وعائلاتهم وهي تلك الظاهرة السياسية التي ازدهرت في عهد الاحتلال البريطاني وقامت على تدجين بعض شيوخ العشائر وشراء ولائهم وضمان رعاية مصالحهم الشخصية والعائلية مقابل تحويلهم إلى مراكز قوى ونفوذ داخل المجتمع الإسلامي للسيطرة عليه وتنفيذ أجندة خارجية في الداخل.. هذه الإمارات والسلطنات والمشيخات وإن تمحورت سابقا حول الواحات وآبار الماء في مناطق متفرقة من اليمن وفي مناطق من الجزيرة العربية فإنها في هذا العصر تتمحور حول آبار النفط والغاز والموانئ والمناطق الاستراتيجية الهامة وتظهر على شكل دول مترفة ثرية تُعدُّ من أهم مراكز النفوذ الأجنبي يُنفّذُ عبرها جميعَ مشاريعه..
فالمطالبة بـ”الدولة المدنية” في هذه الحالة هو رفض لنموذج الإمارات والسلطنات والمشيخات من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون، فالشكل “العشائري” يُقابل الشكل “المدني”، أما من ناحية المضمون فإن دعاة “الدولة المدنية” يعتبرون الإمارات والسلطنات والمشيخات سُمّا زُعافا يمنع التحرر الوطني والعربي والإسلامي.
11- *نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران (دولة القانون والمؤسسات) :*
الجمهورية الإسلامية في إيران قامت على استفتاء شعبي دستوري يومي 2 و3 ديسمبر 1979 وتم إقرار الدستور الإسلامي بنسبة موافقة بلغت 99.5% من الأصوات مع نسبة إقبال بلغت 71.6% أصبحت به إيران “جمهورية إسلامية” على أن تحدث فيها انتخابات مباشرة لرئاسة الجمهورية، وعلى أن يتم إنشاء برلمان أحادي المجلس، وعلى أن أي تغييرات دستورية تستوجب الذهاب إلى استفتاء شعبي.. وهذا ما حدث في يوليو 1989 حيث جرى الاستفتاء الشعبي الوحيد لمراجعة الدستور حيث حظيت التعديلات الدستورية المقترحة على نسبة موافقة بلغت 97.6% مع نسبة مشاركة بلغت 54.6% وكانت أهم التعديلات هي إلغاء الحاجة أن يكون المرشد الأعلى للبلاد مرجعا (المرجع هو درجة دينية) وتم إلغاء منصب رئيس الوزراء وتم إنشاء المجلس الأعلى للأمن القومي.
إذا استطعنا تجاوز الدعاية المُضادة لإيران فإن تجربة الجمهورية الإسلامية هي تجربة “مدنية/قانونية” فريدة من نوعها لا ينبغي الاستخفاف بها فهي دولة مؤسسات قامت على استفتاء شعبي يسود فيه القانون بعيدا عن أسرة الخميني التي لم يكن لها أي نصيب من السلطة.. وتلك هي الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الجمهورية الإسلامية كتجسيد لـ”الدولة المدنية” لانها “دولة الشعب والقانون والمؤسسات” التي اختارت الدين الإسلامي هوية لها، فهل هذه جريمة؟ ألا بد للإنسان المدني القانوني المتحضر أن يكون منزوع الهوية الإسلامية؟
إيران المتمسكة بهويتها الإسلامية حققت انجازات على صعيد الصناعات العسكرية والفضائية والتكنولوجية رغم انها تحت الحصار المستمر منذ 40 عاما بسبب عدائها للنظام العالمي الصهيوأمريكي ورغم انها أصبحت عمقا استراتيجيا لجميع حركات التحرر في المنطقة بما في ذلك المقاومة الفلسطينية التي يخنقها العالم أجمع فإن إيران هي المتنفس الوحيد لتلك المقاومة المنبوذة حسب شهادة قادتها! ورغم ان إيران تدفع ثمن ذلك غاليا في استقرارها واقتصادها وسياحتها وعلاقتها بالأنظمة العربية، ولو انها قررت التخلي عن الهم الإسلامي – العربي وقررت التصالح مع النظام العالمي الصهيوأمريكي وحصرت اهتمامها بقضاياها وبشعبها واقتصادها فقط لأصبح من المقبول لها ان تمتلك قنبلة نووية كباكستان ولتحسنت علاقتها مع العرب ودول العالم ولأصبحت من أهم المراكز الاقتصادية والسياحية في العالم.
12- *نموذج الإمام يحيى حميد الدين (التعايش المذهبي وسيادة الشريعة) :*
قيل إن الإمام يحيى حميد الدين فور دخوله صنعاء مع بعض العساكر قرر بعضهم التعرض لأحد اليهود وأذلوه فشكاهم إلى الإمام يحيى فأمر بمعاقبتهم فساءهم ذلك ولوحوا للإمام يحيى بالتمرد عليه وقالوا له : “سيأكلك الناس دون حمايتنا لك”، فرد عليهم الإمام يحيى واثقا : “اذهبوا، فأنا قوي بالله لا بكم” فحكم اليمن بعد هذا الموقف قرابة 40 عاما حيث تميز حكمه باحترام القانون حيث كانت تصدر أحكام قضائية ضد الإمام يحيى ويقوم هو بتعميدها وتنفيذها ضد نفسه (ما زالت هذه الأحكام محفوظة بالمحكمة العليا بصنعاء) كما ان فترته تميزت بالتعايش المذهبي حتى ان الزيود اتهموه (وهو إمام الزيدية) بطبع كتب السنة أكثر من كتب الزيدية، وله موقف مشهور بمعاقبة الخطيب المُصقع علي عقبات حين ألقى خطبة الغدير في منطقة شافعية واعتبر الإمام يحيى ذلك استفزازا مذهبيا وتهديدا للاستقرار الاجتماعي والسياسي في ظل سياسة زيدية تتبنى تدريس الفقه الإسلامي المقارن (شرح الأزهار) معترفة بجميع المذاهب الإسلامية الرئيسية وتحترمها وتراها مشروعة وتُحرّم فرض مذهب الدولة الزيدي على المناطق الشافعية حتى اعتبرها المفكر التونسي راشد الغنوشي جسر العبور بين السنة والشيعة الذي ينبغي الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه.. ولعل تجربة حزب الحق نفسها لهي الدليل المادي على رسوخ مبدأ التعايش المذهبي بين أبناء اليمن فالمؤسسون لحزب الحق تنوعوا بين علماء صعدة (مجد الدين المؤيدي وبدر الدين الحوثي) وعلماء صنعاء (محمد المنصور وحمود المؤيد) وشيخ الشافعية في تعز (إبراهيم بن عقيل) وشيخ الأحناف في زبيد (أسد الله حمزة) وشيخ الصوفية في حضرموت (عمر بن حفيظ) ليُحققوا بذلك وحدة مذهبية ووطنية فريدة من نوعها مؤكدين للجميع ان الجميع اخوة كانوا اخوة وسيظلون اخوة لا يُعيق ذلك تمايزهم المذهبي يصلون في مسجد واحد جنبا إلى جنب وتحكمهم مبادئ الاخوة والتسامح من قبيل “كل مجتهد مصيب” و”الإمام حاكم” لتصحيح الصلاة خلف المخالف في المذهب و”مذهب العامي مذهب من وافق” لحمل الناس على السلامة والاعتذار لهم.. فهذا التعايش المذهبي مع سيادة الشريعة حتى على الإمام نفسه هو ما يُغني عن استخدام مصطلح “الدولة المدنية” عند من يعتبر هذا المصطلح غامضا أو يتحسس من كونه مصطلحا مستوردا أو يقلق انه سيُثير من الشحناء والتخالف أكثر مما سيبعث على الوفاق والتآلف..
*ما هو أصل مصطلح “الدولة المدنية” وما هو تعريفه؟*
وعند البحث عن أصل مصطلح “الدولة المدنية” Civil State نجد أن البعض يخلط بينه وبين مصطلح “المجتمع المدني” Civil society وما تمثله منظمات المجتمع المدني من بُعْدٍ سياسي وأيديولوجي يتضمن الدعوة لليبرالية والديمقراطية والحريات والتعددية السياسية والحزبية وغيرها من المقولات الغربية، لكن رغم تشابه اللفظين إلا ان هناك فرقا دقيقا في المعنى بين “الدولة المدنية” و”المجتمع المدني” لا ينبغي الخلط فيه، فمصطلح “الدولة المدنية” الذي طبقه النموذج التونسي باعتباره علمانية صرفة عاد إلى الواجهة في الأوساط السياسية المصرية بعد ثورة يناير 2011 حيث اتفقت جميع قوى الثورة المصرية الإسلامية منها والعلمانية على المطالبة بإقامة *”دولة مدنية”* لكنها اختلفت بعد ذلك حول معنى مصطلح “الدولة المدنية” ونطاقه وطريقة تطبيقه.
لكن مهما اختلفت التصوراتُ والتحليلاتُ والأمنياتُ بشأن “الدولة المدنية” فإن تعريفها الأقدم الذي أورده جون بوفيير John Bouvier سنة 1856 يعتبر أن “الدولة المدنية CIVIL STATE” هي اتحاد الأفراد في ظل نظام من القوانين والقضاء بحيث لا يحق لأحدهم الانتقام لنفسه إذا تم انتهاك حقوقه إلا عبر السلطات، لذا فالمواطنون في “الدولة المدنية” يعتبرون أنفسهم *تحت حماية القانون بحق*.
لذا فإن “الدولة المدنية” بحسب هذا التعريف يبقى نطاقُها محصورا في الزاوية القانونية (والإدارية المتصلة بها والمنفذة لها) ولا يتجاوز ذلك إلى الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية وفلسفة الحكم.
*ما معنى “دولة مدنية”؟*
بناء على التحليل أعلاه فكل دولة يسود فيها القانون بحيث يتساوى جميعُ المواطنين أمام هذا القانون بشكل عام (مع مراعاة الخصوصيات الدينية والثقافية والفسلجية) وتقوم الدولة فيه بفرض القانون وتطبيقه على الجميع فهي دولة يصدق عليها وصف “الدولة المدنية”… وبهذا فإن ما يقابل وصف “الدولة المدنية” هو دولتان:
أ- *الدولة الفوضوية:* وهي الدولة التي لا يسود فيها القانون سواء كان مظهرُ ذلك هو بشيوع المحسوبية أو بعدم الوعي بأهمية القانون عند قادة الدولة أو عند المواطنين
ب- *الدولة العنصرية:* يرى فيها جزءٌ من الشعب نفسَهُ فوق القانون وتتصرف معه الدولة على هذا الأساس سرا أو علنا سواء تمايز هذا الجزءُ من الشعب عن غيره عشائريا أو مناطقيا أو حزبيا أو طبقيا (طبقة الثوار والمناضلين أو طبقة الأثرياء والنافذين أو طبقة النبلاء والسادة والمشائخ والكهنة)
وبهذا فلا يهم إن كان نظام الدولة ملكيا أو ذا طابع ديني طالما يسود القانون فيها بخصوصياته على جميع أبناء الشعب فإذا ساد القانونُ في دولة ملكية أو دولة دينية أو دولة فاشية شمولية فهي “دولة مدنية” وفق التحليل أعلاه.
فدول ذات نظام ملكي مثل السويد والدنمارك يسود فيها القانون على الجميع، ودولة لاهوتية دينية كالفاتيكان يسود فيها القانون على الجميع، ودولة شمولية شيوعية كالصين يسود فيها القانون على الجميع، جميع تلك الدول يمكن أن نصفها بانها “دولة مدنية”.
*الإمام علي بن أبي طالب هو التأصيل الشرعي الأدق لـ”الدولة المدنية”*
قصة الإمام علي بن أبي طالب مع اليهودي الذي سرق درعه فلم يلجأ الإمام علي لأخذ حقه بيده بل لجأ إلى الدولة وحرص على أن يتساوى أمام القضاء مع ذلك اليهودي، كل هذه التفاصيل وبناء على تعريف John Bouvier انما هي تأصيل شرعي لفكرة “الدولة المدنية” التي يسود فيها القانون حتى على فارس الإسلام وإمام المتقين وكبير بني هاشم ورئيس الدولة مهما كانت قداسته أو سلطته أو عشيرته أو تاريخه النضالي، ومهما كان خصمه – مهما كان دين خصمه أو تاريخ خصمه أو مكانة خصمه فالجميع يتساوى أمام القانون ولا يأخذ أحد حقه بيده بل يأخذ حقه عبر الدولة في إطار القانون. وهي “دولة مدنية” باعتبارها امتدادا لدولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي أسسها في “المدينة المنورة” ومارس فيها دور القائد السياسي “الديني المدني” رئيسا للدولة وإماما للمسلمين وأمكن له بها أن يتعايش حتى مع اليهود بمعاهدتهم مع عدم تفريطه بحاكمية الإسلام.