لا يختلف التحليل السياسي بشكل عام من حيث المبدأ النظري عن أي علم تحليلي آخر فالمحلل الاقتصادي الذي يدرس حالة السوق الداخلي أو الدولي وإشكاليات الظواهر الاقتصادية التي وفرت الأسباب لارتفاع الأسعار أو انخفاضها, أو أي قضية اقتصادية أخرى, وما هي الأعراض الجانبية الاقتصادية التي يمكن أن تحدث بسبب تلك الظاهرة وتأثيرها على الداخل الإقليمي أو الخارج الدولي, مثله مثل المحلل السياسي الناضج الذي يقوم بنفس التشخيص, لكن بطريقة مهنية خاصة تكمن في مجال اختصاصه السياسي وذلك بدارسة الظواهر السياسية المعنية وتحليلها.
أهمية التحليل السياسي:
ويشهد على أهمية التحليل السياسي ما يتردد من أن العالم بات قرية صغيرة, لا مجال للحديث فيه عن بعد جغرافي, ومن ثم نجد أن الحدث السياسي الذي يقع في إحدى الدول الغربية أو في الولايات المتحدة الأمريكية تتعدى آثاره ذلك النطاق والحيز الجغرافي حتى تترك بصماتها شئنا أم أبينا على البشرية جميعها, حتى ذلك الرجل الذي لا شأن له بالسياسة وعالمها المتسارع ينال من أثرها نصيبا, وهو الذي قد يجهل الحدث وأسبابه ودواعيه ويكون فقط ضحيته.
وأيا ما كان الأمر, فيمكن القول أن التحليل السياسي بات من ضروريات الحياة المعاصرة, سواء لرجل الدولة الذي مجال عمله السياسة أو المهتمين عامة بالشأن السياسي, أو أولئك الراغبين أن يكونوا على دراية وسعه أفق تؤهلهم لفهم ما يدور في قريتهم الصغيرة بدلا من أن تطرق الحوادث أبوابهم ويكونوا من بين ضحاياها وكان بمقدورهم أن يكونوا من صناع الحدث أو العالمين بدوافعه ومآلاته.
تعريف التحليل السياسي:
يمكننا أن نعرف التحليل السياسي بأنه “الفهم الدقيق لمسار الأحداث السياسية وإدراك دوافعها”.
أي أن التحليل السياسي يتضمن شقين أساسيين, يجيب كل واحد منهما على سؤال رئيس لا يمكن تصور تحليل سياسي لا يجيب عنهما:
الشق الأول:هو الفهم الدقيق لمسار الأحداث, وهو يجيب على السؤال الأول, ماذا حدث؟
ونقصد بالفهم الدقيق هنا سبر أغوار الحدث السياسي وعدم الوقوف عند حد المعرفة السطحية, فقد يحتمل الحدث السياسي أكثر من معنى, وقد يكون ظاهرة شيئا غير باطنه, وهكذا..
ومسار الحدث ليس المقصود به اللحظة الراهنة للحدث, أو صورته الأخيرة الظاهرة فقط, بل المقصود به المعرفة والإلمام بالجزء التاريخي, والوقائع الراهنة ذات الارتباط, بالإضافة إلى الإدراك بطبيعة الشخصيات والدول الفاعلة ذات الصلة بالحدث أو الظاهرة محل الدراسة أو التحليل.
الثاني:هو إدراك الأسباب الدافعة لهذا الحدث, ويجيب على السؤال الثاني, لماذا حدث؟
وهنا لا يقف المحلل عن مجرد الدوافع الظاهرة البادية فقط, بل يعتني بها بداية, ثم يذهب يبحث عن الأسباب الأخرى الخفية التي ربما لا يدركها غير المتخصصين والعارفين بأصول التحليل السياسي.
فالإدراك مرحلة تفوق مرحلة العلم والمعرفة, كون مرحلة الإدراك تفيد الإحاطة والشمول بكافة الأسباب والدوافع الممكنة والمحتملة وعدم الركون إلى بعضها فقط.
مدارس التحليل السياسي:
تتعدد مدارس التحليل السياسي، ولكل مدرسة مبرراتها ومسوغاتها وآلياتها بشكل عام، وتبرز في هذا الصدد ثلاث مدارس, هي:
أـ المدرسة الأيديولوجية:
هناك من المحللين من يتناول الحدث السياسي تحليلا في ضوء مدرسة أيديولوجية محددة ورؤية يؤمن بها ويعتقدها.
فمثلا المحلل السياسي الذي يؤمن بأن الصراع الديني هو الذي يحرك التاريخ والذي يقف وراء كل حدث، نجده يشخص كل نزاع سياسي بين طبقتين على أنه صراع ديني, ويجد في هذا التحليل مفتاحا للدخول إلى مغاليق الحدث وتفسيره.
ب ـ المدرسة القومية:
والمدرسة القومية تحلل أية ظاهرة أو حدث سياسي من خلال النظرية القومية، أي تلك النظرة التي ترى أن القومية هي جوهر الصراع، أو هي التي تطبع حقيقة الصراع في العالم، فهناك قوميات في العالم، والمحصلة النهائية للتاريخ في أي لحظة من لحظات مسيرته الطويلة هي حصيلة التنافس والنزاع والتسابق بين هذه القوميات.
ج ـ المدرسة الواقعية:
المدرسة الواقعية، تؤمن بأن الواقع هو المصدر الأول والأخير في التحليل السياسي، فنحن لا نركن إلى سبب واحد في التحليل، بل هناك جملة عوامل واقعية تفسر وتعلل وتكشف، فلا نستبعد دور المزاج والتاريخ في اتخاذ القرار السياسي، وفي فهم الحدث السياسي، والظاهرة السياسية، وغيرها من موضوعات التحليل السياسي المطروحة، ولا نستبعد دور الذكريات بين الدول والشعوب والقوميات والأديان والمذاهب المسئولة عن الحدث السياسي وتعميقه.
أدوات التحليل السياسي:
تحت هذا العنوان يمكن التعرض للأدوات الضرورية للفهم والتحليل السياسي, وتتركز هذه الأدوات في إدراك البيئة السياسية ببعديها الداخلي والخارجي وما يتحكم فيها من مفاهيم وآليات تصيغ الأحداث وتُنشأ القرارت بكافة أنواعها لاسيما السياسية منها.
ومعرفة البيئة المحيطة تتحكم فيه عدة مدارس معرفية, لكن أقربها هي تلك المدرسة التي تمزج التقسيم الجغرافي بأبعاده المسيطرة والمتحكمة فيه وفي توجهاته وآليات صنع القرار فيه.
ووفق هذه المدرسة يمكن النظر للبيئة على اعتبار أن لها شقين:
ـ البيئة الداخلية.
ـ البيئة الدولية.
ويمكن تناولهما على النحو التالي:
أولا:ـ البيئة الداخلية (نطاق الدولة الجغرافي)
البيئة الداخلية يمكن رؤيتها من خلال عدة قوى تتفاعل وتتجاذب لتشكل فيما بينها الصورة العامة والإطار السياسي والفكري للدولة وهي:
أـ القوى السياسية السيادية.
ب ـ القوى الأمنية.
ج ـ القوى العسكرية.
ء ـ القوى الفكرية والدينية.
وتمارس هذه القوى دورها وتتفاعل فيما بينها في إطار ما يسمى بـ”الأمن القومي”.
ثانيا:البيئة الخارجية (نطاق العلاقات الدولية)
وهذه بدورها تنقسم إلى:
أولا: بيئة إقليمية (الجوار الجغرافي للدولة).
ثانيا: بيئة دولية (تشمل بقية دول العالم).
وهناك كلمتان فقط أصطلح على أنهما تمثلان مفتاحين أساسيين لفهم العلاقات الدولية، هما:
1. القوة بمختلف أنواعها (عسكرية/اقتصادية/بشرية/علمية..إلخ).
2. المصلحة القومية, وهي “قيمة مرغوب فيها”، والقيمة عبارة عن شئ مادي أو رمزي يثير الاهتمام بدرجة كبيرة تجعل الأشخاص أو الدول تتوقع أنها سوف تنال قدر ما من “التمتع” إذا حصلت عليه.
آليات التحليل السياسي:
قسم العديد من المفكرين آليات التحليل السياسي إلى عدد من الأقسام والمراحل, وهي كالتالي:
1ـ تحديد القضية وتعريفها:
فلا تحليل من دون تحديد القضية، والقضية في التحليل السياسي يجب أن تكون واضحة مشخصة، وليست ضبابية هلامية.
2ـ تحصيل الأخبار السياسية المتعلقة بالقضية:
فالمحلل السياسي يهتم بالخبر السياسي أيّما اهتمام، يفتش عنه، ويتتبع مصادره، ويفكك عناصره الأساسية، ويستطلع المزيد في خصوصه، ويسبر دلالاته, ويدرك أن قيمة الخبر السياسي لا تعتمد على مدى الطول والقصر، بل بمقدار ما يحمل من معلومات.
3ـ توظيف المعلومات لخدمة التحليل:
وبعد حصول المحلل على معلومة ممحصة إلى حد يمكّن من الاعتماد عليها، تأتي مرحلة أدق وأعقد، وهي توظيف تلك المعلومات، وإحسان ربطها في منظومة تكون صورة قريبة من الواقع, بحيث تفسر الحدث ودوافعه, وتعطى الأدلة والبراهين العلمية والموضوعية على مصداقية هذه النتائج والمخرجات التي توصل إليها المحلل.
دور العقيدة في التحليل السياسي
نقصد بالعقيدة هنا كل ما ينعقد عليه قلب الإنسان, وليس بالضرورة أن يكون الحديث منصبا هنا فقط على العقيدة الإسلامية.
ونحن نرى أن العقيدة ذات أهمية في التحليل السياسي, فالبعد العقدي شئنا أم أبينا هو حاضر في النفس كما هو حاضر في الواقع، وهو حاضر كذلك في التاريخ، بل له إسهام كبير في تسيير مجريات الأحداث, بما لا يمكن إغفاله أو تجاهله.
فالصراع الدائر الآن بين العالم العربي والإسلامي والغرب يشكل البعد العقدي جزءا مهما فيه، وقد يكون المحرك الرئيس في المد الاستعماري أو في إشعال فتيل الحروب هو البعد العقدي، والتاريخ يشهد على هذا.
ومع ذلك فإن قصر التحليل السياسي على الجانب العقدي دون غيره من أدوات التحليل يعتبر خللا مهنيا, فثمة دوافع أخرى تحرك الإنسان فضلا عن العقيدة, خاصة عند النظر لسياسات الدول الكبرى التي تتحرك بحزمة من الدوافع والمؤثرات.
فمع كون المحرك العقدي حاضرا في الأحداث إلا أن هذا لا يعني أن تكون العقيدة هي التي تحدد الموقف النهائي في التحليل السياسي, فالأحداث السياسية قد يتحكم فيها الموقف المصلحي السياسي, والصراع تتعاوره عدة محركات، منها العقدي ومنها المادي وغير ذلك من الدوافع.