مقال تفصيلي بالأرقام أيهما أكثر لصوصية نحن أم صدام؟ سجال عاصف بين عبد المهدي ووزير علاوي

العصر-نشر عادل عبد المهدي السياسي البارز ورئيس الوزراء الأسبق، مقالاً تفصيلياً بالأرقام، اليوم الجمعة، يرد على مداخلة لعدنان الجنابي الشخصية السياسية المقربة من إياد علاوي والوزير في كابينته عام 2004، حول “اللصوصية” المتفشية في النظام الحالي، ومقارنتها بالعهود السابقة، وتحدث عن قضايا تمثل ما وراء المشاكل المالية، مثل إرادة الشعب ومطالب المشاركة السياسية والحريات.
بسم الله الرحمن الرحيم
عدنان الجنابي.. تهافت النقض
نشر الاستاذ الجنابي رداً في “شبكة الاقتصاديين العراقيين” (26/7/2023) بعنوان “نقض النقيض مع عادل عبد المهدي”، على بحث “الدولة العراقية: لصوصية/مافيوية؟ حقيقة ام وهم؟”. أوضحت فيه خطأ التوصيف. فهذه الظواهر موجودة، والخطأ في تعميمها. وإلا لوسمنا بقية الدول بها لوجودها في أغلبها.
يعترض الاستاذ الجنابي تحميلي الاستعمار وبناءاته اللاحقة المسؤولية الاولى في تخلف بلداننا، وبأنه القلة المتحكمة بالعالم واللصوصية الكبرى. ويقول ان الاستعمار كان امراً وقفنا ضده في الخمسينات والستينات. وان “عالم اليوم -وعالم الغد- هو عالم الاقتصاد الاجتماعي الذي تقوده الصين والهند واندونيسيا وماليزيا. هو عالم يتعايش مع، ولا يحاول السيطرة على، حضارات مصر والرافدين وفارس. هو عالم تجاوز مرحلة الاستعمار والرأسمالية المتوحشة، ويحمل معه معظم اسيا وافريقيا إلى عالم تعددي خالٍ من الهيمنة الاحادية”.
سارد عليه بلسان، البروفسورة الاقتصادية الهندية المعروفة “اوتسا باتنيك” Utsa Patnaik والتي نشرت (2018) ان بريطانيا سلبت الهند (44.6) ترليون دولار امريكي، للفترة (1765-1938)، عبر انظمة الضرائب والتحويلات المالية وشركة الهند الشرقية (المعروف دورها في العراق) فقط. مؤكدة ان هذه المبالغ كانت ستحدث فارقاً كبيراً في بنى الهند الاقتصادية والاجتماعية. وان الهند كانت ثاني أكبر مصدر للفوائض إلى العالم الخارجي لثلاثة عقود قبل 1929!! وهذا مثال لما حدث للهند، وهو حدث معنا جميعاً، وأسوأ.
وحول هيكلية نظام الهيمنة وتقسيم العالم ل (شمال/غرب) متقدم، و (جنوب/شرق) متخلف، يطالب القاضي في العدل الدولية “باتريك روبنسون” (ربيع 2023)، بريطانيا ب (24) ترليون دولار ل (30) دولة افريقية كتعويض لضحايا واستعباد (+17) مليون افريقي، منذ (1550) وحتى (1807). مما ساهم بنهضة الغرب الاقتصادية. ويقول لا اقبل نقاش رئيس الوزراء البريطاني، ان هذا حدث منذ فترة بعيدة. فهناك عواقب حالية لممارسة العبودية تظهر يومياً.
كلام الاستاذ الجنابي صحيح فيما يتعلق بعالم الغد. خصوصاً بعد انضمام (6) اعضاء جدد ل “بريكس”. لهذا ندعو لانضمام العراق وتوفير الشروط المطلوبة، بتنويع قطاعاته الحقيقية اساساً.
اما عالم اليوم والعقدان المنصرمان والقرون الماضية، فحقائقها صارخة. فلقد دمروا الطبيعة، ولوثوا البيئة، واسترقوا واستغلوا الشعوب، وجَنَّدوها في مشاريعهم وحروبهم. وقسموا البلدان وعبثوا وسرقوا معارفها وعلومها ومخطوطاتها ومعادنها وذهبها وثرواتها ومياهها وهوائها وفضاءاتها وابارها ومناجمها وغاباتها ومحاصيلها وحيواناتها واثارها، الخ. فتراكمت قدراتهم. ليتحكم عالم الاغنياء/الاقوياء بعالم الفقراء/الضعفاء، عبر سياقات محكمة غير متكافئة، تضمن “الياتها” و”قوانينها” الربح والسيطرة المتزايدة للاغنياء، والخسارة والتبعية المستمرة للفقراء. لا يفلت منها -الا جزئياً- من استطاع تحرير نفسه من ضوابطها، أو بعضها. ف (1%) من سكان الأرض، يسيطرون على (50%) من ثروات العالم. و”اللصوصية” (Kleptocracy) العظمى هي نظام الهيمنة والرأسمالية المتوحشة. فالفرعيات مهمة فقط، عند تأكيد الحقيقة الكبرى، لا عند اخفائها، وإلا سنستمر في الدوران في مكاننا.
في نقضه الثاني سيرد على نفسه، بقوله: “المنظومة التي تأسست منذ الاحتلال (2003) وحتى يومنا هذا هي اسوأ منظومة مرت بالعراق المعاصر، فالاحتلال جلب معه اقلية (Oligarchy) مكنت مجموعة من الحرامية (Kleptocracy) من نهب أكثر من ترليون دولار من واردات النفط”. فهو يتفق ان الاحتلال هو المسؤول الأول. فلماذا ينفيها في اولاً، ويؤكدها في ثانياً.
ومن هي الاقلية التي جلبها الاحتلال؟ أهي من اسقط مشاريعه لكتابة دستور بدون جمعية منتخبة؟ ام من قاومه سياسياً وعسكرياً، واخرج قواته؟ ويعمل على انهاء تواجده؟ ألم يكن الاستاذ الجنابي وزيراً في الحكومة المؤقتة (للدكتور علاوي 2004). ونائباً لرئيس اللجنة الدستورية، واحتل مواقع قيادية، تنفيذية وتشريعية. فاذا كان سيعفي نفسه، وهذا حق. فمن الحق أكثر ان لا يغمز ويلمز من قناة من هم، بوضعه أو يتقدمونه.
وحول لصوصية الترليون، نعلق:
بلغ مجموع الموارد النفطية (1.034) ترليون دولار للفترة 2005-2022. وهو أكثر حساب يُراقب خارجياً وداخلياً. لكنه، أكثر حساب اسيء استخدامه اقتصادياً. وهذا يختلف عن تمكين “مجموعة من الحرامية من نهب أكثر من ترليون دولار”، وفق “الجنابي”.
شكل القرار الاممي (1483) المجلس الدولي للرقابة والاشراف (IAMB)، وضم ممثلين امميين ومن الجامعة العربية. هدفه مراقبة وتدقيق التصرفات المالية العراقية، وتحديداً عائدات النفط (OPRA). وضمان صرفها لمصلحة الشعب عبر الموازنات، واستقطاع (5%) كتعويضات للكويت، والبالغة (52.4) مليار.
ظل حساب المقبوضات النفطية (OPRA) وصافي حساب (DFI) يدقق سنويا من شركة تدقيق عالمية، وتقاريرها موجودة. وبموازاة ذلك، شُكلت لجنة خبراء عراقيين (COFE عبد الباسط تركي وعادل الحسون واخرين) للاشراف على حساب صندوق التعويضات في جنيف، وحساب المقبوضات النفطية، اللذين يدققان سنوياً من شركة التدقيق الدولية لنهاية 2022. وانهت (COFE) اعمالها وسلمت وثائقها “للرقابة المالية” بانتهاء تعويضات الكويت قبل اشهر.
فموارد النفط لا تستلمها الحكومة العراقية من المتعاقدين مباشرة، كالسابق، فيسهل وضع اليد عليها ونهبها. والأموال تصرف حسب الموازنات السنوية، وبرقابات دولية وداخلية من قوى مختلفة رسمية ومجتمعية. هذه الإجراءات لن تمنع التلاعب والفساد والسرقة. لكنه تلاعب وفساد لحقوق واضحة قيمها وارقامها. فليس هناك أموال أو نسب تذهب -كالسابق- إلى حزب، أو شخصيات وجهات، أو صفقات مستقلة تُعقد مع المشترين والمتعاقدين. فهل اسميتم الانظمة السابقة ب “اللصوصية”، وقد تجاوزت اية رقابة، وصرفت الأموال باوامر وقرارات عليا، دون نقاش.
لا نشيد بالموازنات، فهي تعكس طبيعة الدولة الريعية ومساراتها الخاطئة وتستبطن الكثير من الفساد والسرقات والهدر. لكنها تبقى السبيل الافضل لمتابعة مسار الأموال. صحيح ان الموازنات هي تقديرات تسبق الصرف. وما يجب اعتماده هو الحسابات الختامية. التي -حسب علمي- قد انجزت لمعظم السنين، وكان من المفترض تقديمها مع موازنة 2020. وان تقديمها من شأنه تشخيص العديد من مواطن الخلل في النفقات ومآلاتها.
انطلاقاً من نسب الانفاق الفعلية للفترة (2005-2022)، حسب البيانات المنشورة في الموقع الرسمي لوزارة المالية يمكننا تشخيص الجهات والنسب الفعلية لانفاق (1.034) ترليون دولار كموارد نفطية للسنوات 2005-2022، مضافاً اليها بقية الواردات غير النفطية والقروض، والتي ستجعل الموارد القابلة للانفاق بحدود (1.3) ترليون دولار.
وعليه، بلغ مجموع النفقات الفعلية (اؤكد الفعلية وليس التقديرية) للاعوام 2005-2022 (1.562،249،281،206،200) دينار، اي (1 كوادريليون و562 ترليون و249 مليار و281 مليون و206 الف و200 دينار) اي حوالي (1.3 ترليون دولار حسب سعر الصرف قبل 2020). وادناه النفقات حسب الابواب ونسبها المئوية للمجموع، لتلك الفترة:
(42.73%) تعويضات الموظفين (671.544،861،098،640 دينار)، كردستان غير مشمولة: (29.65%) الرواتب، (8.58%) الرواتب التقاعدية، (1.73%) شبكة الحماية الاجتماعية، (1.67%) دعم الشركات العامة و (1.10%) رواتب المنح.
(10.73%) سياسات الدعم (168.615،441،889،152 دينار): (3.39%) البطاقة التموينية، (1.27) غاز إيران، (1.20%) الحنطة والشلب، (0.80%) استيراد الطاقة، (1.08%) استيراد الادوية، (0.94%) كلفة انتاج النفط الخام، (1.20%) منح تشغيلية أخرى، (0.57%) دعم المزارعين، (0.22%) دعم النازحين والهجرة والمهجرين و (0.05%) استيراد الوقود.
(4.98%) الديون وفوائدها (78.337،285،208،370 دينار): (2.64%) تعويضات الكويت و (0.88%) الديون من النظام السابق (نادي باريس) والجديدة، و (1.46%) الفوائد.
(11.08%) بقية النفقات التشغيلية للوزارات والمحافظات (174.121،900،050،737 دينار).
(24.74%) المشاريع (388.802،122،478،854 دينار): المشاريع الاستثمارية (18.10%)، و (6.64%) مستحقات عقود التراخيص.
(5.73%) تشغيلية واستثمارية لاقليم كوردستان (90.060،563،681،697 دينار). هذه محتسبة من اجمالي النفقات، ويجب عدم الخلط بينها والنسب التي تذكر بالموازنات، والتي تحتسب بعد طرح النفقات السيادية والحاكمة.
بالطبع يجب إضافة احتياطات البنك المركزي وحساب الحكومة العراقية والحسابات المالية للوزارات والمؤسسات الحكومية، الخ. وهذه تمثل فيضاً وليس نفقة يجب اضافتها، اذا اردنا معرفة مجمل موارد الدولة، وليس نفقاتها.
فالكلام عن “دولة لصوصية” أو “نظام لصوصي” Kleptocracy، تحكمه اقلية Oligarchy تشويه للحقيقة وتضليل للوعي والرأي العام بعدم تسمية الاشياء باسمائها. فاللصوص موجودون في كل الدول والانظمة. بل كان النظام السابق -كدولة ونظام- أكثر لصوصية وتجاوز على المال والممتلكات الخاصة والعامة، بسبب الدكتاتورية والتفرد، والتعاقدات المباشرة وانعدام الرأي الآخر، وغياب المؤسسات التشريعية والرقابة الداخلية والخارجية المستقلة فيه. رغم ذلك لم نسمه بالدولة والنظام اللصوصي. فالدولة والمجتمع العراقيان ريعيان بامتياز. وما يراه الاستاذ الجنابي هي امراض وسلبيات وفساد وسرقات النظام الريعي ليس إلا. وقد أكدت في البحث ان التجربة لم تنجح في استثمار هذه الأموال في الوجهة الصحيحة.
ينتقد قولي إن “المنظومة الحالية هي أفضل من جميع المنظومات التي مرت بالعراق المعاصر منذ تأسيسه وليومنا هذا”، مقتطعاً الجملة مما يليها وهي: “فمن سيقول، بأن بعض تلك المنظومات كانت أفضل، سيقف عند بعض المشاهد، لسلطة الدولة أو لانتظام الاجتماعات وهدوئها الظاهري. أو سيتغافل عن الظروف الموروثة… أمّا من ينظر بواقعية وعلمية إلى المنظومة والحراك الاجتماعي والحقوق الفردية والجماعية، وانفتاح البلاد، فيقينًا سيخرج باستنتاج أننا اليوم أكثر اقترابًا من تلبية إرادة الشعب الحقيقية. وأكثر قابلية لتحقيق نجاحات حقيقية”. هذا تمام ما قلته. فاين الخلل؟ بل اوردت ارقاماً تبين تقدماً احصائياً لقضايا ومؤشرات تستخدم عالمياً للبرهان على تقدم البلدان. كمعدل الدخل الفردي، والناتج الاجمالي، ومعدل العمر المتوسط، وعدد المستشفيات والجامعات والمدارس، ووسائط التعبير وامور كثيرة أخرى. وأوضحت بان ذكري لهذه الامور هي فقط للرد على من اسميتهم “اشباه التنويرين” باستخدام منطقهم ومؤشراتهم. فأنا أرى الكثير من هذه المؤشرات سلبية تأسيسياً. فكثير منها يرسخ مفهوم “الدولة الريعية” التي فشلت الحكومات المتعاقبة والدولة خلال العشرين عاماً الماضية من كسر شوكتها.
يدعي قولي “ان نظام المحاصصة الطائفية والمكوناتية يعتبر” قاعدة المرحلة “و” هذا يجب ان يسجل تنازلاً وتفهما وحسن إدارة من الاغلبية السكانية (الشيعية) لبقية شركاء الوطن “.
هنا لم يُحسن القراءة، أو حشر مفردة “المحاصصة” كقاعدة المرحلة بقصد. فانا تكلمت عن التوافق والاجماع، فلم نكن نمتلك في بداية المرحلة وسيلة لادارة البلاد بدونها. وذكرت ان هناك اعراضاً جانبية للتوافق والاجماع -ومنها المحاصصة- ستظهر لاحقاً. وهذا رفض للمحاصصة وليس قبولاً بها. فالحكومات قبل 2003 كانت طائفية وعنصرية واستبدادية، وبانفراد. ومناقشات الدستور حققت مشاركة مكوناتية ومجتمعية وسياسية غير مسبوقة. والاطراف كانت تطالب بالحدود القصوى. فلم يكن ممكناً الذهاب إلى حكومة اغلبية، لانه سيعني انفراد جهة بالجهات الاخرى. وهنا اطريت على موقف الاغلبية السكانية في حسن تفهمها للموقف. كذلك ذكرت ان الاغلبية السياسية، باتت ممكنة اليوم لان المكونات عرفت افاقها وحدودها، ولم تعد تطالب بالمطلقات كما في 2004-2005. فارجو ان يحاكمني بكلماتي، لا بكلماته.
يقول إنني ذكرت (ان أمن العراق لم يتحقق “سوى عند حضور الحشد ودخوله معادلة الأمن الوطني” و”لو غاب الحشد الشعبي لعاد داعش والارهاب والفوضى العارمة” ). ويذكر “انه لا يجوز الانتقاص من الجيش العراقي”.
صحيح واؤكد مجدداً هذا الكلام. ولم انتقص من القوات المسلحة بل اشدت بتضحياتها ومواقفها. وقلت بان الحشد (والحشد العشائري والبيشمركة) كقوات شعبية منح القوات المسلحة روحية قتالية كانت تفتقدها. فوصلت “داعش” لابواب بغداد رغم عديد الفرق العسكرية. وانني اوافقه بان “الصحوات (السنية)” لعبت دوراً مهماً في تحرير مناطقها من “القاعدة”. فاين العجب؟
ينتقد قولي بانه “لا يوجد فصل حقيقي بين الدين والدولة. فالاديان كانت وما زالت حقيقة اساسية لتنظيم الحياة الفردية والجماعية”.
نعم هذا صحيح. وقدمت امثلة ان الغرب لم يفصل حقيقة بين الدين والسياسة. وبقي دينهم سلاحاً لسياستهم، وسياستهم سلاحاً لدينهم. وانهم اسسوا اهم مرتكز لهم في منطقتنا على اسس دينية كاملة. فالانقسام الحاصل في الكيان الصهيوني مثال مكشوف لانظمة الغرب بباطنها وظاهرها.
فالصراع -في اساسياته- ليس بين “متدينين” و”علمانيين”. بل بين يهود/متطرفين/محتلين، ويهود/سياسيين/محتلين، يسعى كلاهما لانتصار دولته الدينية.
ساترك ما اسماه “المسكوت عنه”. لانه يبين وجهة نظره في امور، لم تكن مدار بحثي، كحل الجيش والاجتثاث وتشرين والتداول. كما ساترك قوله ان “ابن رشد” في “تهافت التهافت” انتصر على “الغزالي” في “تهافت الفلاسفة”، كدليل لانتصار العلمانية على الدين. ويكفيني القول ان الأول مالكي، والثاني شافعي، وكلاهما يحاججان باسم الاسلام قضية الجبر والاختيار. وكلاهما تياران مؤثران في الامة.
اشكر الاستاذ الجنابي لنقده، وليتقبل النصيحة، فيضع نقيضه امامه، كما هو، لا وفق تصوراته، متمنياً له الموفقية والنجاح.
عادل عبد المهدي